الأستاذة مروان نسيمة
محاضرات مادة قانون الإجراءات الجزائية السنة الثانية الفرع الث
التحقيق الإبتدائي (بمعرفة قاضي التحقيق)
من المتفق عليه أن التحقيق يعتبر إحدى الوظائف الثلاثة الأساسية التي تميز القضاء
الجنائي، (وظيفة المتابعة الجزائية وهذه مهمة النيابة العامة وحتى الطرف المدني في
حالات معينة، ثم وظيفة التحقيق الإبتدائي وهي مهمة قاضي التحقيق، وأخيرا وظيفة
المحاكمة وهذه مهمة قضاء الحكم).
ويمكن القول بداية أنه لا يمكن الفصل في أي دعوى جزائية من دون إجراء تحقيق.
إلا أن ما تجدر الإشارة إليه، هو ضرورة التفرقة بين التحقيق بمعناه الواسع، وهذا
يرتبط بكل القضايا الجزائية مهما كانت طبيعتها أو خطورتها وينصرف إلى جميع العمليات
التي تتعلق بجمع المعلومات والبيانات الخاصة بالجريمة المرتكبة والتي سوف تحال
إلى قاضي الحكم في شكل ملف حتى يتسنى له الفصل فيها.
إذن قاضي الحكم سوف يستند على محتويات هذا الملف ثم يقوم هو شخصيا بتحقيق شفوي
يسمى التحقيق في جلسة المحاكمة.
أما التحقيق بمعناه الضيق والذي يطلق عليه التحقيق الإبتدائي، فإنه ينصرف إلى تلك
الأعمال التي يتولاها خصيصا قاضي يسمى قاضي التحقيق وهي تهدف الى جمع أدلة
الإثبات لأجل إظهار الحقيقة وبطبيعة الحال فإن القانون زود هذا القاضي بجملة من
السلطات الخاصة من خلالها يمارس صلاحياته مع مراعاة الأشكال المقررة في هذا الشأن.
الخصوصيات العامة للتحقيق الإبتدائي
(قضاء التحقيق)
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، إن التحقيق الإبتدائي العادي هو ذلك الذي تتولاه جهات
قضائية مختصة يطلق عليها قضاء التحقيق (تتكون من قاضي التحقيق على مستوى
المحكمة الإبتدائية ثم غرفة الإتهام على مستوى المجلس القضائي).
وأول ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن قضاء التحقيق يكتسي بعض الخصوصيات بالنظر
إلى الهيآت القضائية الأخرى والتي يمكن تلخيصها كالتالي:
1_ إستقلالية قضاء التحقيق:
والمقصود هنا أن التحقيق الإبتدائي يشكل في حد ذاته وظيفة قضائية قائمة بذاتها
ومستقلة عن وظيفة المتابعة الجزائية التي هي مهمة النيابة العامة أساسا وعن
وظيفة المحاكمة الجزائية التي هي من نصيب قضاء الحكم.
ويترتب عن إستقلالية قضاء التحقيق هذه عدة نتائج:
أ – أن قاضي التحقيق لا يتلقى أوامر لا من طرف النيابة العامة ولا من طرف قضاء
الحكم.
ب-لا يمكن لقاضي التحقيق أن يفتح تحقيقا إلا بعد تلقيه طلبا رسميا من النيابة العامة
(على نحو ما سنرى) أو شكوى مصحوبة بإدعاء مدني من الضحية (مواد 67 و 72
من ق.إ.ج).
ج-عدم الجمع بين التحقيق في قضية والجلوس للحكم أو الفصل فيها،بينما يجوز له الحكم
في القضايا التي لم يسبق له التحقيق فيها.
ح-يكون قاضي التحقيق في وضعية حياد تجاه الخصوم وهو يسعى إلى الوصول إلى
الحقيقة سواء كانت في مصلحة المتهم أو في غير صالحه.
خ- الإجراءات تكون مكتوبة فكل إجراء أو عمل يباشره قاضي التحقيق وكل قرار يتخذه يجب تدوينه مع
إدراجه في ملف التحقيق.
ثم إن إجراءات التحقيق سرية، بمعنى أنه لا يسمح لا للجمهور ولا للصحافة حضور
جلسات التحقيق (انظر المادة 11 من ق.إ.ج). كما أن الشهود لا يخطرون بمحتوى
شهاداتهم أو التعرف على أقوالهم إن كانوا متعددين.
د-وأخيرا فإن إجراءات التحقيق ليست حضورية
ولكن بإمكان الأطراف تقديم بعض الطلبات وممارسة نوع من الرقابة على صحة الإجراءات أو الإطلاع عليها مع توسيع دور المحامين أمام قاضي التحقيق
ذ-إلا أن أهم خاصية تميز عمل قاضي التحقيق، هو أن هذا الأخير عند تعامله مع
الأشخاص في إطار التحقيق، فإنه يقوم بفرز مراكزهم القانونية.
وللإشارة هناك المركز القانوني للمتهم، المركز القانوني للشاهد، المركز القانوني
للمجني عليه وحتى المركز القانوني للخبير.
ولتبسيط دراسة التحقيق الإبتدائي من طرف قاضي التحقيق، فإنه يستحسن التعرض لها
من خلال النقاط التالية:
1 – النقطة الأولى: أعمال وسلطات قاضي التحقيق عند إتصاله بالدعوى.
2 –النقطة الثانية: أعمال وسلطات قاضي التحقيق بعد فتح التحقيق أو أثناء سير التحقيق.
3 –النقطة الثالثة: سلطات قاضي التحقيق عند إنهاء التحقيق.
أولا أعمال وسلطات قاضي التحقيق عند إتصاله بالدعوى
1 – كيفية أو طرق إتصال قاضي التحقيق بالدعوى
سبق وأن أشرنا إلى أن قاضي التحقيق يتصل بالدعوى بإحدى الطريقتين:
_ إما عن طريق الطلب الإفتتاحي لإجراء التحقيق الي يصدره وكيل الجمهورية
_ وإما بناء على شكوى مصحوبة بإدعاء مدني يقدمها المجني عليه.
هذا ولقد سبق وأن تكلمنا عن الطلب الإفتتاحي لإجراء التحقيق من حيث شكله
ومحتوياته.
ويكون وكيل الجمهورية ملزما بتحريك الدعوى العمومية بهذه الطريقة إذا تعلق
الأمر بجناية لأن التحقيق الإبتدائي إجباري في مواد الجنايات حتى ولو ارتكبت
في حالة تلبس. وقد نصت المادة 66 فقرة أولى من ق.إ.ج " التحقيق الإبتدائي
وجوبي في مواد الجنايات...." وتضيف المادة 67 أنه"لا يجوز لقاضي التحقيق
أن يجري تحقيقا إلا بموجب طلب من وكيل الجمهورية لإجراء التحقيق حتى ولو
كان ذلك بصدد جناية أو جنحة متلبس بها...."
ومن جهة أخرى يتحتم على قاضي التحقيق أن يتقيد بالوقائع أو التهمة المذكورة
في الطلب الافتتاحي. واذا اكتشف قاضي التحقيق وقائع او أفعال خلال إجرائه
التحقيق، فإنه يتعين عليه أن يعرض الأمر على وكيل الجمهورية فيقوم هذا
الأخير بإصدار ما يسمى بالطلب الإضافي للتحقيق في الوقائع الجديدة، وما هذا
إلا تطبيق لما رأيناه حول إستقلالية المتابعة عن التحقيق.
_ أما الطريقة الثانية والتي تتمثل في الشكوى المصحوبة بإدعاء مدني، فقد
أشارت إليها صراحة المادة 72 من ق.إ.ج حيث نصت:" يجوز لكل شخص
متضرر من جناية أوجنحة أن يدعي مدنيا بأن يتقدم بشكواه أمام قاضي التحقيق
المختص".
كل ما هنالك، أن الشكوى المصحوبة بإدعاء مدني تنطوي على وظيفتين: الأولى
أنها تؤدي إلى تحريك الدعوى العمومية والثانية أنها إدعاء مدني على نحو ما
رأيناه سابقا.
ويتعين على قاضي التحقيق عرض الشكوى على وكيل الجمهورية لإبداء طلباته
حولها ويجوز أن توجه طلباته ضد شخص مسمى أو غير مسمى...(راجع المادة
73 من ق.إ.ج.
2-موقف قاضي التحقيق بعد إتصاله بالدعوى
مباشرة بعد تلقيه الدعوى بالطرق المشار إليها أعلاه يقوم قاضي التحقيق
ببحث المسائل التالية:
1) النظر في الإختصاص: والمقصود بالإختصاص هو بيان الحدود التي أقرها
القانون لقاضي التحقيق ليمارس فيها ولاية التحقيق في الدعاوى المعروضة
عليه، ولقد سبق أن ذكرنا أن هناك الإختصاص المحلي أو المكاني، ثم جرائم
الإختصاص النوعي وأخيرا هناك الإختصاص الشخصي.
فيما يتعلق بالإختصاص المحلي فقد حددته المادة 40 من ق.إ.ج (راجع
المادة).
وقد قام المشرع بتمديد الاختصاص المحلي لقاضي التحقيق في حالة بعض
الجرائم نظرا للطبيعة الخاصة لهذه الجرائم حيث صدر القانون رقم 04-14
المؤرخ في 10 نوفمبر 2004 وذلك في أنواع معينة من الجرائم حددها المشرع
على سبيل الحصر:الجرائم المتعلقة بالمتاجرة بالمخدرات والجرائم المنظمة
العابرة للحدود والجرائم الماسة بأنظمة المعالجة الآلية للمعطيات وجرائم
تبييض الأموال والإرهاب والجرائم المتعلقة بالتشريع الخاص بالصرف وهذا
ما يتماشى مع إنشاء أقطاب قضائية متخصصة في هذا النوع من الجرائم.
أما فيما يتعلق بالاختصاص النوعي، فإن قاضي التحقيق مختص بالتحقيق
كقاعدة عامة في كل جريمة معاقب عليها وفقا لقانون العقوبات والقوانين
المكملة له.
أما إذا كانت الجريمة تتعلق بالنظام العسكري فإن الاختصاص فيها يؤول الى
قاضي التحقيق العسكري وحده (مادة 25 من قانون القضاء العسكري)
أما فيما يتعلق بالإختصاص الشخصي فالقاعدة أن قاضي التحقيق يكون مخولا
بالتحقيق مع كافة الأشخاص مهما كانت صفتهم أو وظيفتهم وسنهم.
إلا أن القانون استثنى من هذه القاعدة بعض الفئات إما بحكم وظيفتهم أو سنهم
حيث أخضع التحقيق معهم لإجراءات خاصة ويمكن ذكر هؤلاء بإختصار:
_ الأحداث: إن التحقيق مع المتهمين الأحداث في مواد الجنح لا يتم إلا من طرف
قاضي متخصص وهو قاضي الأحداث أما في الجنايات فيتم التحقيق معهم
من طرف قاضي التحقيق.
_ الأفراد العسكريون: العسكريون ومن هم في حكمهم الذين يرتكبون جرائم
عسكرية أو حتى مدنية ولكن داخل المؤسسة العسكرية يتم التحقيق مع هؤلاء
من طرف قاضي التحقيق العسكري وحده (مادة 25 من قانون القضاء العسكر)
_ ضباط الشرطة القضائية الذين حددتهم المادة 15 من ق.إ.ج. فهؤلاء يتم
التحقيق معهم حالة ثبوت ارتكابهم جريمة من طرف قاضي تحقيق من خارج
دائرة اختصاص الجهة التي يعمل بها الضابط (مادة 577 من ق.إ.ج).
_ قضاة الحكم: ما عدا وكيل الجمهورية ورئيس المحكمة، فإن متابعتهم تتم
بنفس الإجراءات المطبقة في مواجهة ضباط الشرطة القضائية، مادة 576
ق.إ.ج). ويشمل قضاة المحاكم قضاة الحكم وقضاة التحقيق ومساعدي وكيل
الجمهورية.
_ قضاة المجالس القضائية ورؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية:
فيما يتعلق بهؤلاء يحال ملف الدعوى الى النائب العام لدى المحكمة العليا
الذي يقرر إن كانت ثمة محلا للمتابعة، فيلتمس الرئيس الأول للمحكمة العليا
ويقوم هذا الأخير بإنتداب قاضي تحقيق من خارج دائرة اختصاص المجلس
القضائي الذي يعمل فيه القاضي المتابع (مادة 575 ق إ ج).
_ قضاة المحكمة العليا ورؤساء المجالس القضائية والنواب العامون: وهؤلاء
تتبع في شأنهم احكام المادة 573 حيث تتم متابعتهم بترخيص كتابي من وزير
العدل ويجرى التحقيق من طرف أحد قضاة المحكمة العليا يعين من طرف
الرئيس الأول للمحكمة العليا.
2-النظر في مدى شرعية مباشرة التحقيق:
والمقصود هنا هو معرفة ما إذا كان قاضي التحقيق ملزما في كل الحالات
بفتح وإجراء تحقيق لمجرد تلقيه طلبا إفتتاحيا بإجراء التحقيق من طرف وكيل
الجمهورية؟
والإجابة هي لا، ذلك أن القانون سمح لقاضي التحقيق بالإمتناع عن إجراء
التحقيق إذا تبين له وجود سبب من الأسباب القانونية التي تمنع إجراء تحقيق.
وفي هذه الحالات يقوم قاضي التحقيق بإصدار أمر يسمى أمر رفض أو
الإمتناع عن إجراء التحقيق.
وهذا الأمر يختلف تماما عن الأمر بألا وجه للمتابعة فهذا الأمر الأخير لا
يتم إصداره إلا بعد فتح ومباشرة التحقيق وله أسبابه بينما الأمر برفض التحقيق
يصدره قاضي التحقيق عند تلقيه الطلب من وكيل الجمهورية.
ويمكننا ذكر بعض الأسباب التي إذا توافرت فإنها تسمح لقاضي التحقيق أن
يمتنع عن فتح أو إجراء تحقيق وقد ذكرتها المادة 73/4 من ق.إ.ج:
1. إذا كانت الأفعال على افتراض ثبوتها لا تقبل أي وصف جزائي: أي أن
الأفعال المراد متابعة مرتكبها لا تحتمل تكييفا جزائيا (لا جريمة ولا عقوبة
إلا بنص).
2. إذا وجد قيد مؤقت لتحريك الدعوى العمومية مثل ضرورة تقديم شكوى مسبقة
من طرف المجني عليه (مواد 339 و330/4 من ق.ع مثلا) أو ضرورة
الحصول على إذن من طرف الهيأة المختصة (نواب البرلمان مثلا).
3.إذا وجد مانع يتمثل في صفة خاصة في الجاني أو ظرف خاص مثل صلة
القرابة (مادة 368 من ق.ع) مثلا السرقة بين الأصول والفروع أو بين الأزواج.
في كل هذه الحالات، يجوز لقاضي التحقيق أن يرفض إجراء تحقيق.
ثانيا مرحلة إجراء التحقيق
يفترض هنا أن قاضي التحقيق قرر فتح تحقيق رسمي وعندئذ سيدخل في
المرحلة الأساسية والحيوية لأنها تمثل صلب عمله وهو الإنطلاق في إجراء
التحقيق أي جمع أدلة الإثبات لأجل الوصول إلى إظهار الحقيقة.
وتجدر الإشارة إلى أن قاضي التحقيق يسعى إلى إبراز الحقيقة سواء كانت هذه
في صالح المتهم أو في غير صالحه.
ومن جهة أخرى، يتمتع قاضي التحقيق بحرية إختيار وسائل الإثبات التي يراها
مناسبة للوصول إلى الحقيقة، المهم أن يقوم بذلك وفق ما تمليه أحكام القانون التي
تقررت لهذا الشأن.
وفي هذا الصدد، أشارت المادة 68 من ق.إ.ج:" يقوم قاضي التحقيق وفقا للقانون،
بإتخاذ جميع إجراءات التحقيق التي يراها ضرورية للكشف عن الحقيقة...."
ولأجل الاضطلاع بهذه المهمة، فإن القانون زود قاضي التحقيق بسلطات واسعة
يمارسها سواء تجاه الأشخاص الذين يحقق معهم أو فيما يتعلق بإجراءات التحقيق
نفسها.
1/ إستجواب المتهم:
إن الإستجواب يمثل وسيلة إثبات ضرورية للكشف عن الحقيقة والحقيقة أن قاضي التحقيق
يسعى من خلاله الى الحصول على إعتراف المتهم بالأفعال أو التهمة المسندة إليه.
ويتم إستجواب المتهم في سرية، بغير علنية وحتى في غياب الأشخاص الأخرين المعنيين
بالقضية.
إلا أن وكيل الجمهورية يمكنه الحضور في هذا الإستجواب (مادة 106 من ق.إ.ج) إذا
أبدى رغبته في الحضور.
كما أن الإستجواب يكون غير وجاهي بمعنى أن قاضي التحقيق يقوم بطرح الأسئلة التي
يرغب في طرحها وعلى المتهم الرد أو الإجابة عنها.
وليس هناك ما يمنع قاضي التحقيق من تلقي التصريحات التي يرغب المتهم بالإدلاء بها
تلقائيا كما أنه غير ملزم بتلقيها، كما يمكن لقاضي التحقيق الترخيص لوكيل الجمهورية بطرح أسئلة على المتهم.
وأخيرا لابد من تحرير محاضر بمناسبة إجراء الإستجواب من طرف كاتب الضبط وفق
الأوضاع القانونية وتوقع من طرف المتهم وقاضي التحقيق وكاتب الضبط.
- عدد الإستجوابات أثناء التحقيق الابتدائي. (انظر المادة 100 و101 من ق.إ.ج).
هناك قاعدة أساسية أقرها القضاء منذ القديم من شأنها أن قاضي التحقيق يلتزم
بإستجواب المتهم على الأقل مرة واحدة، ويعمل القضاء على إبطال الإجراءات التي
لم تتضمن ولا إستجوابا واحدا.
وتعتبر هذه القاعدة في غاية الأهمية حيث أنها تبين أن إستجواب المتهم لا يعتبر فقط
وسيلة إثبات ضده، بل هو كذلك وسيلة دفاع في صالحه لا ينبغي حرمانه منها.
ويبقى قاضي التحقيق حرا في إجراء استجوابات إضافية، فبإمكانه استجواب المتهم متى
رأى أن في ذلك فائدة في مجال إظهار الحقيقة، لاسيما إذا رغب في الحصول على
معلومات من المتهم على إثر إكتشاف عناصر جديدة.
وما يحدث عمليا، هو أن قاضي التحقيق يجري استجواب المتهم في الجنح البسيطة
مرتين، مرة الأولى عند مثوله لديه لأول مرة، ومرة ثانية عند إقدامه على إنهاء التحقيق
وإصداره ما يسمى أوامر التصرف. وهذا ما نتعرض له الأن
- سلطة قاضي التحقيق في تقييد حرية المتهم:
إذا إنتهى قاضي التحقيق من استجواب المتهم أو من تلقي أقواله وتدوين كل هذا في
المحضر كما سبق القول، فإنه، أي قاضي التحقيق، له أن يتخذ واحد من التدابير التالية:
أ: إبقاء المتهم في وضعية إفراج- أي يتركه حرا طليقا ومسرحا ، وفي هذه الحالة يطلب
منه إخطاره بكل تغيير قد يطرأ على عنوانه أن يلتزم بالبقاء تحت تصرفه طوال التحقيق
وبالمثول أمامه كلما استدعي لإكمال التحقيق معه.
ب: إخضاع المتهم لنظام الرقابة القضائية:
وهذا التدبير هو تدبير وسط بين الإفراج وسلب الحرية بمعنى أن المتهم لا يحبس ولا
تسلب حريته ولكنه في نفس الوقت ليس حرا مائة بالمائة لأنه سوف يخضع لإلتزامات
بالمادة 125 مكرر1 من ق.إ.ج والتي تنص:
"يمكن قاضي التحقيق أن يأمر بالرقابة القضائية إذا كانت الأفعال المنسوبة للمتهم قد
تعرضه لعقوبة الحبس أو عقوبة أشد.
تلزم الرقابة القضائية المتهم أن يخضع، بقرار من قاضي التحقيق، إلى التزام أو عدة
التزامات، وهي كالتالي:
1 –عدم مغادرة الحدود الإقليمية التي حددها قاضي التحقيق إلا بإذن هذا الأخير،
2 – عدم الذهاب إلى بعض الأماكن المحددة من طرف قاضي التحقيق،
3 – المثول دوريا أمام المصالح والسلطات المعينة من طرف قاضي التحقيق،
4 – تسليم كافة الوثائق التي تسمح بمغادرة التراب اوطني أو ممارسة مهنة أو نشاط يخضع إلى
ترخيص، ...
5 – عدم القيام ببعض النشاطات المهنية عندما ترتكب الجريمة إثر ممارسة أو بمناسبة
هذه النشاطات
6 – الإمتناع عن رؤية الأشخاص الذين يعينهم قاضي التحقيق أو الاجتماع ببعضهم
................. إلى آخر المادة ..."
للإشارة فقط، فإنه يجوز لقاضي التحقيق أن يخضع المتهم لبعض الإلتزامات فقط
من بين الإلتزامات الواردة بالمادة 125 مكرر1 المذكورة أعلاه، كما أنه بإمكانه فرض
إلتزامات جديدة عليه.
ج-وضع المتهم في الحبس المؤقت:
وهذا الإجراء هو إجراء خطير لأنه ستسلب حرية المتهم ويحرم من حقه في التنقل
وهو حق مضمون دستوريا، ولهذا السبب أحاط المشرع هذا التدبير بالعديد من الشروط
والضمانات موضحا أن الأصل هو الحرية والإستثناء هو الحبس.
لذلك لا يجوز لقاضي التحقيق إتخاذ قرار حبس المتهم احتياطيا إلا إذا توافرت الشروط
الواردة بمقتضى المادة 123 مكرر من ق.إ.ج (راجع نص المادة).
ومن جهة أخرى حدد المشرع المدة الزمنية التي يستغرقها الحبس المؤقت ويتعين على
قاضي التحقيق الحرص على تطبيقها تطبيقا صحيحا وإلا يعتبر الحبس تعسفيا في حق
المتهم، وهذه المدد الزمنية ذكرتها المواد من 124 إلى المادة 125 مكرر من ق.إ.ج (الرجاء
الإطلاع على هذه النصوص في تقنين الإجراءات الجزائية).
هذا مع ملاحظة أنه يجوز لقاضي التحقيق أن يحول الحبس المؤقت إلى رقابة قضائية بل
وحتى إلى إفراج مؤقت عن المتهم المحبوس مؤقتا.
هذا ويسمح القانون للمتهم المحبوس مؤقتا طلب الإفراج عنه مؤقتا وفقا لإجراءات حددتها
المواد 127 و128 من ق.إ.ج.
2 / السماع للشهود أثناء التحقيق:
إن الشاهد من الناحية القانونية ليس طرفا في الدعوى بل هو من الغير.
كل ما هنالك أن الشاهد تكون في حوزته معلومات متعلقة بالجريمة المرتكبة وتفيد
القضاء في سعيه إلى إظهار الحقيقة.
لذلك فإن قاضي التحقيق قد يلجأ أثناء إجراء التحقيق إلى الإستماع إلى الشهود ثم إن
أطراف الدعوى أنفسهم قد يلجؤون الى مطالبة قاضي التحقيق بالإستماع الى شهادة
بعض الأشخاص تكون لديهم معلومات في صالحهم.
ومن الناحية القانونية، يكون للشاهد مركزا قانونيا يتحمل من خلاله أربعة إلتزامات
أساسية:
1 – الإلتزام الأول: هو الإلتزام بالمثول لدى قاضي التحقيق بعد إستدعاءه وفي حالة
التخلف بغير مبرر يمكن إحضاره قسرا زيادة على إمكانية تعرضه لعقوبات حسب
ما ورد بالمادة 97 من ق.إ.ج.
2 – الإلتزام الثاني: الإلتزام بالنطق باليمين عند مثوله أمام قاضي التحقيق حسب ما ورد
بنص المادة 89 من ق.إ.ج ويكون أداء اليمين بالصيغة القانونية المذكورة بالمادة 93 من
ق.إ.ج.ويعفى من أداء اليمين الأشخاص القصر دون السادسة عشر ويستمع إليهم على
سبيل الإستئناس.
3 – الإلتزام الثالث: وهو أساسي ويتمثل في الإدلاء بالشهادة أي يلتزم الشاهد بالإدلاء بكل
ما يعرفه عن الجريمة أو عن مرتكبها وليس له الحق في الصمت، لأن الحق في
الصمت هو من حقوق المتهم وحده.
4 – الإلتزام الرابع: يتمثل في قول الحقيقة وعدم تحريفها أوالشهادة لصالح أحد الأطراف
لسبب أو آخر.
ومن الناحية الإجرائية يتلقى قاضي التحقيق شهادات الشهود على انفراد ويكونون
معزولين عن بعضهم البعض قبل الإدلاء بأقوالهم وفي غياب المتهم ويجب على قاضي
التحقيق تحرير محضر سماع الشاهد.
3 – سلطة قاضي التحقيق بإصدار الأوامر أو المذكرات القسرية.
قد يحدث منذ فتح التحقيق أو أثناء إجراء هذا التحقيق أن المتهم لا يستجيب للإستدعاء
الموجه له من طرف قاضي التحقيق أو يكون في حالة فرار من قبضة العدالة.
وبالنظر الى هذه الأوضاع، فإن القانون أقر لقاضي التحقيق سلطة إصدار ما يسمى
بالأوامر أو المذكرات القسرية.
وتتميز هذه المذكرات بأنها تطبق قسرا من طرف السلطات العمومية وأنها غير قابلة
للطعن لاسيما مذكرة الإحضار ومذكرة القبض أما مذكرة الإيداع والتي تتعلق بوضع
المتهم في الحبس الحبس المؤقت فإنها تكون قابلة للطعن فيها بالإستئناف.
كما أن هذه المذكرات تكون نافذة المفعول في كافة الإفليم الوطني وهو ما أدى بالمشرع
إلى تناولها في قسم خاص عنوانه:" أوامر القضاء وتنفيذها". ومن هذه المذكرات:
1 – مذكرة الإحضار أو أمر الإحضار:
وبحسب تسميته، فإن أمر الإحضار هو ذلك الأمرالذي يصدره قاضي التحقيق إلى
القوة العمومية لإقتياد المتهم ومثوله أمامه على الفور.
وبحسب المادة 110 من ق.ا.ج، فإن هذا الأمر يتخذ في مواجهة المتهم إذا توصل
بالإستدعاء للمثول للتحقيق ولم يستجب ولم يقدم عذرا منعه من الحضور.
والأمر بالإحضار يكون كتابيا ويجب أن يتضمن الهوية الكاملة للمتهم وصفة القاضي
الذي أصدره والتهمة المنسوبة إليه وتكييف الفعل المرتكب والمادة القانونية المعاقبة عليه
ويحمل توقيع القاضي الذي أصدره والتاريخ ثم يرسل إلى الشرطة أو الدرك حسب موطن
الشخص المطلوب بعد تأشير وكيل الجمهورية عليه ثم تقوم القوة العمومية بالبحث عنه
واقتياده فورا الى قاضي التحقيق الذي يقوم بإستجوابه فورا لحظة إحضاره.
2 – الأمر بالقبض على المتهم:
ويسمى كذلك أمر التوقيف mandat d’arrêt وهو ذلك الأمر الذي يصدره قاضي التحقيق إلى القوة العمومية للبحث عن المتهم وعند العثور عليه إيقافه واقتياده إلى
المؤسسة العقابية المشار إليها في الأمر حيث يجرى تسليمه ثم حبسه (مادة 119 ق.إ.ج).
ويشترط لإصدار هذا الأمر أن تشكل الجريمة جنحة معاقب عليها بالحبس أو كانت تشكل
جناية.
وهو الأمر الذي يصدره قاضي التحقيق في الحالة التي يكون فيها المتهم هاربا أو رفض
الإمتثال للإستدعاء المجه إليه أما إذا كان هاربا أو مقيما بالخارج، فإنه يمكن لقاضي
التحقيق بعد إخطار وكيل الجمهورية أن يصدر أمرا بالقبض عليه دوليا حسب الإتفاقيات
المبرمة بين الجزائر والدولة التي سينفذ فيها الأمر.
ويتضمن أمر القبض هوية المتهم ومقر سكناه والتهمة الموجهة إليه ويحمل التاريخ وتوقيع
القاضي الذي أصدره. وعند وصول الأمر الى القوة العمومية تقوم هذه بالبحث عنه وعند
ضبطه يلقى عليه القبض ويقتاد مباشرة الى المؤسسة العقابية ويتحتم على قاضي التحقيق أن يستجوبه في ظرف لا يتجاوز 48 ساعة. وتطبق زيادة على ذلك المواد 120 إلى 122 من ق.إ.ج.
3 – الأمر بالإيداع: هوذلك الأمر الذي يصدره قاضي التحقيق إلى رئيس المؤسسة العقابية
لإستلام وحبس المتهم.
و على قاضي التحقيق أن لا يصدر هذا الأمر إلا بعد إستجواب المتهم وفقا للأوضاع
المقررة قانونا، ويجب على القاضي المحقق أن يراعي بصرامة الشروط التي وضعها
القانون والمكرسة بالمواد 123إلى 125-1 من ق.إ.ج.
3 / إجراءات جمع مستندات الإقناع:
إن مستندات الإقناع pièces à conviction سواء أكانت أشياء أم وثائق تلعب
دورا كبيرا في الكشف عن الحقيقة وفي إقناع القاضي.
هذه المستندات ينبغي البحث عنها في كل مراحل الدعوى الجنائية، وهناك قواعد وأحكام
بالنسبة لجمعها وتقديمها وكثيرا ما يتم العثور عليها بطريقة عفوية مثلا في مكان وقوع
الجريمة كالعثور على السلاح المستعمل في ارتكاب الجريمة أو أدوات تركها مرتكبها.
ولكن البحث عن مستندات الإقناع لا يمكن أن يترك للصدفة، بل يجب أن يكون مخططا
له ومنظما، فهذه الأشياء لا تكتشف ولا يتم الحصول عليها إلا عن طريق إجراء أبحاث
Investigations سواء في مكان وقوع الجريمة مما يستوجب الإنتقال للمعاينة وقد تجرى
حتى في منازل الأشخاص ونكون هنا بصدد التفتيش perquisition وهذه عملية منظمة
بدقة في إطار قانون الإجراءات الجنائية.
أ – الإنتقال أو المعاينة:
قد يعمد قاضي التحقيق إلى إجراء المعاينة إما لأن ضباط الشرطة القضائية لم يقوموا
بذلك منذ البداية وإما يكون مضطرا لإجرائها لتكميل المعاينات التي سبق القيام بها أو
لتأكيدها.
وفي كل الأحوال فإن قاضي التحقيق هو الذي تعود اليه السلطة التقديرية للقيام بإجراء
المعاينة من عدمها.
** الإجراءات المتبعة في مجال الإنتقال للمعاينة:
إذا قرر قاضي التحقيق الإنتقال الى مكان الجريمة فعليه إخطار وكيل الجمهورية الذي له
الحق في مرافقته (مادة 79 من ق.ا.ج) وعليه أن يكون مصحوبا بكاتب التحقيق.
وعند وصول قاضي التحقيق إلى عين المكان يبادر بجمع ما يمكن جمعه من آثار ودلائل
مادية.
وقد أوجبت المادة 79 ق.ا.ج على قاضي التحقيق تحرير محضر تدون فيه كل المعاينات التي
قام بها، أما الأثار المضبوطة فإنه يلتزم بوضعها وحفظها في أحراز.
- الإنتقال للتفتيش:
أقرالقانون لقاضي التحقيق (مواد 79 الى 81 ق.ا.ج) سلطة الإنتقال الى منازل
المتهمين أو المشتبه فيهم وحتى الى مقرات عملهم ومكاتبهم والذين قد تكون بحوزتهم
أشياء لها علاقة بالجريمة وذلك لإجراء تفتيش لها قصد الحصول على أشياء أو أدوات
يكون من شأنها إظهار الحقيقة.
المهم أنه يمكن أن تباشر عملية التفتيش في أي مكان يظهر أنه مناسب لذلك وقد عبر
القانون عن هذا: " يباشر التفتيش في جميع الأماكن التي يمكن العثور فيها على أشياء
يكون كشفها مفيدا لإظهار الحقيقة.."
وهنا أيضا لا بد على قاضي التحقيق من تحرير محضر التفتيش يدون فيه جميع ما تم القيام
به وما تم حجزه من وثائق او مستندات أخرى مع توقيعه.