محاضرات في مقياس علم النفس الأورام
السنة الأولى ماستر علم النفس الصحة
أ د: طالب سوسن
البريد الالكتروني: talebsaoussane@gmail.com
التكيّف النّفسي والآثار النّفسية والاجتماعية لدى مريض السّرطان وأقربائه
تمهيد:
إن سماع كلمة سرطان مخيف مفزع يهدد ويزعزع استقرار النفس الانسانية، فغالبا ما يُرادف الموت الأكيد الذي لا مفر ولا نجاة منه، هذا حسب ما يحمله الفرد من تصورات اجتماعية سواء أكان مصابا به فعلا أو لا .
ولكن نحن في هذا السّياق سوف نركّز أكثر على المريض وما يتمخض عنه من إعلان عن تشخيص السّرطان، الذي لن يكون أمرا سهلا أو مستساغا عليه بطبيعة الحال،و لن تكون مسألة الاعلان سهلة حتى على الطبيب الذي سوف يُعلن عنه في ظروف معينة، قد تختلف من طبيب إلى آخر، ولا حتى على أهله ،إذن سوف نتحدّث عن مراحل يمر بها المريض ذاته ألا وهي مراحل التكيف التي سوف يتم الخوض فيها.
ومما لاشك فيه أن سلوك الانسان تحدده عوامل عدة منها ما يرتبط بشخصيته وخبراته، ومنها ما يرتبط بمحيطه عند تلقي المعلومة السيئة ( المفجعة ) وتعد وضعية صعبة للغاية تترتب عليها استجابات متتالية ولكن ليست بالضرورة تتبع نفس الترتيب ، كما أن هذه المراحل ( مراحل التكيف ) لا يمر بها مريض السّرطان بمفرده ولكن أيضا محيطه ولكن لا تعاش في نفس الوقت وبنفس الطريقة.
أولا : تحديد بعض المصطلحات ذات الصلة بالموضوع :
المرض (La maladie): إصابة على مستوى الجسم حيث يحدث تغيير على مستوى الوضع الصحي.
التشخيص (Le diagnostic): التعرف على المرض من خلال أعراضه.
الإعلان (L’annonce): مفهوم يرتبط بحقيقة تتعلق بالإعلان عن التشخيص يقوم به الطبيب.
الحداد (Le deuil): هو كلمة فرنسية تعني " الألم" وهو يعني المرور عبر الألم يشير إلى فقدان قد يولد معاناة نفسية و/ أو بدنية .
ثانيا: من هو الشخص المكلف بعملية الاعلان عن التشخيص ؟
إن مسألة إعلام المريض بحقيقة مرضه مسؤولية الطبيب، فمن حق المريض معرفة مرضه ومن واجب الطبيب اخباره ( ولكن آخذا بعين الاعتبار الظروف النفسية للمريض وبتهيئة الجو النفسي والمكان المناسب لذلك ) .
تأثير تقديم المعلومة ( التشخيص ) على المريض :
الاعلان عن مرض خطير أو مزمن يترتب عنه دائما صدمة (Choc) نفسية، تكون استجابة المريض غير متوقعة: اندهاش، أسى، بكاء،صراخ .أحيانا استجابة مشوشة ولكن حدّته الانفعالية تكون شديدة.
وهذا الاعلان يستوجب عمل الحداد عن الحالة الصحية السابقة حيث كان يتمتع بصحة جيدة لأنه يعرف أنه مصاب بالمرض ( السّرطان ) .
ثالثا : مراحل التكيّف (Phases d’adaptation):
الرفض أو الانكار(Négation ou refus):
الاعلان عن تشخيص مرض قاتل خبر مفجع مؤلم يولد حالة من الصدمة المؤقتة؛ يتملك الشخص ذهول وعدم اليقين (الرّيبة) متبوعا بقول: « غير ممكن »، « لا يُمكن أن يكون ذلك حقيقيا »، « ليس أنا !».
يمكن أن تقلل هذه الآلية الدفاعية من حجم التهديد الحياتي، والاحتفاظ بمحيطه كما هو، هذا الانكار هو
استراحة ضرورية يسمح له بالاستقبال وبالاستمرار في العيش بأقل درجة قلق ممكنة، بإنكار الوضعية يعمل الشخص جاهدا للتّحدّث كأنه حدث خارجي أو أنه يتعلّق بشخص أجنبي، وحتى اتخاذ قرارات بشأن اختيار العلاج يُعد أيضا ميكانيزما دفاعيا للإنكار من خلاله يُخمد الحقيقة على أشخاص أعزاء عليه، ومع مرور الوقت هذا الميكانيزم المؤقت سوف ينبثق من تقبل جزئي للحقيقة.
الغضب (الثورة) (La colère ):
سريعا تظهر على السطح أحاسيس الغضب والثورة والسّخط يتدفق منها قول: « لماذا أنا ؟».
كل ذلك يُمكن أن يُصبح مصدر استثارة ونقد: ضحك، لا مبالاة بالآخرين، بعلاج الممرضة، بالعلاج الموصوف من قبل الطبيب، آراء أو أفكار العائلة وغيرها ..
الغضب هو استجابة طبيعية ومبرّرة، فالشخص المصاب بالسّرطان يشعر بمرارة فقدان الاستقلالية لاسيما إن استلزم عليه الاستشفاء، كما تعد مرحلة صعبة بالنسبة لأفراد عائلته، وحتى الفرقة الطبية الذين لا يفهمون دائما معنى هذا الغضب.
تمثل هذه الثورة أو الغضب القلق الذي يخبره المريض في محيطه من مشاعر الاستثارة، الشعور بالذّنب، العجز أمام مصيره.
المساومة (Marchandage):
إذا ظلّ الرفض عنيدا للحقيقة، وظلت الثورة ضد القدر غير فعالة ، قد يلجأ الشّخص المصاب إلى المساومة: تقديم وعد ( على سبيل الامتثال للعلاج الموصوف من قبل الطبيب ) بالتبادل أو مقابل مكافأة تتمثل في حدث معين قد يكون قريبا أو بعيدا في الزّمن ( على سبيل المثال: الرجوع إلى العمل، الذهاب في رحلة أو سفر ..)
يمكن أن تتعلق المساومة بأمور دينية كأن يُسخّر حياته للمسجد، غير أن فائدة المساومة قد لا تدوم طويلا أي تظل لفترات قصيرة، ولكنها مع ذلك تحمل الأمل للمريض، أحيانا تترافق بشعور بالذّنب فالوعد الذي قطعه على نفسه قد لا يمكن الوفاء به دائما ( كأن يحضر لعيد ميلاد، حضور تخرّج ابنه من الكلية) .
الاكتئاب (La dépression):
سوف يتفطن الانسان المصاب بالسّرطان أن واقعه اليومي قد تغير: تعب، وهن بدني، فقدان للطاقة استشفاءات متكررة أو طويلة، حياة مهنية واجتماعية مهدّدة ...
يشعر الشخص المصاب بالسّرطان أنه سُلبت منه أشياء أساسية، هو يُدرك أنه فقد الكثير، يُصبح يشعر بأنه تائه أو بالضياع، يشعر بالأسى، لا يستطيع القيام بأدواره تجاه أقربائه كما كان عليه في السابق.
يتوقع مريض السّرطان الفُقدان، فقدان أشياء كثيرة ، وأنه سوف تحدث له أشياء، ولا يعرف بما سوف يتشبّت، ويجهل غالبا الطرق التي سوف تمكنه من السّيطرة على الموقف وإيجاد استقلالية جديدة.
التقبل (Acceptation):
التقبل ليس بالضرورة إشارة إلى أن الشخص يستقيل أو يستسلم بعيدا عن انكار أي أمل، التقبل يتضمن مرحلة هامة لسيرورة من خلالها يمكن أن يتعلم المصاب أو المصابة بالسّرطان كيف يعيش وكيف يموت، وذلك باحترام الشروط المفروضة للوجود الانساني.
من خلال التجارب المؤلمة ومراحل الأزمة والتي تقلب رأسا على عقب حياة المريض، فإن الشخص قد يجد في ذاته قوة من أجل تقييم الوضعية التي هو عليها واستخراج العوامل والجوانب الايجابية؛ بمعنى إقامة توازن جديد في حياته، إذن فمن خلال تجربته الشخصية ينمو، ويكتشف قدراته وإمكاناته ومميزاته الايجابية .
هذه المراحل التي تم شرحها سابقا أطلقت عليها إليزابث كيلبر روس (Elizabeth Kulber Ross) سنة (1975) بسيرورة النضج والذي يوضح نموذج التقبل كما هو موضح فيما يلي:
نموذج إليزابث كيلبر روس (1975)
الصدمة المبدئية (Le choc initial): " على الفور أحدث لي صدمة " .
الانكار(Deni): " غير صحيح " .
الغضب (الثورة) (Révolte): " لماذا أنا " .
التفاوض (Négociation): " حسناً ليس لديّ خيار " .
التفكير/ التأمل (Réflexion): " لن أصبح كما كنت سابقا " .
التقبّل (Acceptation): يتم تقبل المرض أو يتحمله .
رابعا: تأثير الاصابة بالسّرطان على الأقارب:
تعد العائلة وسطا مهما للعلاقات الوجدانية والوسط القريب جدا من المصاب، وعند تواجد مرض مزمن أو خطير فإن ذلك من شأنه يؤدّي إلى اضطراب استقرارها ويهدد ارتباطات التعلق، وبالتالي عليها ومن أجل التكيف مع الوضعية أن تعيد تنظيم ذاتها من أجل بلورة وتوزيع الأدوار بين أفرادها.
عند الاعلان عن التشخيص، فهنا المريض قد علم بالأمر وعليه إعلام أقربائه، فعليه تناسي أو نسيان الصدمة من أجل تهيئة نفسه للحوار الذي سوف يجريه مع أهله بشأن المرض، وهنا ليس المريض بحاجة إلى متابعة وتدخل نفسي بل العائلة هي الأخرى تحتاج ذلك.
السلبية التي قد تظهر بسبب المرض قد تكون مصدر ألم بالنسبة للعائلة التي لا يمكنها التصرف، ولا يمكنها أن تتلقى العلاجات عوضا عن مريضها، وأرى كباحثة في موضوع السّرطان وعلاجه أن المريض ليس مريض السرطان ولكن المريض هو العائلة التي تتكبد معاناة وصعوبات كثيرة وتعيش لحظات ومراحل صعبة ولدينا مثل شعبي جزائري « المريض ميشي المريض، المريض لِّي يُرفُد المريض».
الدور الأساسي الذي ينبغي على العائلة القيام به هو مرافقة مريضها، ولكن أحيانا هذا الدور لا يكون كافيا أو ملبيا لمتطلبات المريض لاسيما وأنهم لا يمكنهم تقدير أو تقييم الألم والمعاناة التي يتكبّدها، إحدى المريضات كنت قد تابعتها من الناحية النفسية وفي مراحل متقدمة من السّرطان حيت الألم كان حادًّا لا يُطاق فتقول ما يلي : " في رمضان،كُنت نبكي من الضُّر،الدّار هُلُّكتهم، قعدُو غِير يْشُوفو فّيَّا مَا قُدْرُو يْدِيرُو وَالُو ".
يقول باك (M-F Bacque (و بايي(Baillet) أن : « دعم العائلة ضروري، ولكنه لا يكون دائما كافيا،لأنها أحيانا تكون في شدّة( ضيق ) أكثر من المريض».
بالنسبة للمحلل النفساني كورنو (G Corneau) و الذي مسّه السّرطان يذكر: « يجب في آن واحد إعلام وتطمين المقربين.. من جهة إذا قدم الأشخاص الدعم والتفاعلات التي يحتاجها كل مريض وليس اغراقه في انزواء( انعزال)، فإن انشغالاتهم يمكن أن تصبح وبسرعة خانقة».
يعيش الأقرباء نفس المراحل كرد فعل مثلما يعيشها المرضى إثر الاعلان عن التشخيص؛ الغضب قد يستهدف المريض في حد ذاته، فقد نُحملّه ولو جزئيا مسؤولية هذه الكارثة لأنه مثلا تعاطى التدخين وبإفراط، أو أنه تهاون عن علاج نفسه، وبسببه قد تتعطّل مشاريعنا أو تؤجّل.
قد يشعر المرضى أثر الاصابة بالمرض على علاقتهم بعائلتهم ، بأصدقائهم، زملائهم ، فالتعليقات والمقارنات قد تزيد قلقهم وتوترهم سواء أكانت من قبل أشخاص مقربين لهم أو من قبل أشخاص خارج نطاق العائلة والتي تؤثر أقوالهم واستجاباتهم وسلوكياتهم على عائلة المصاب.
أحيانا يكون محتوى المحادثات مقتصرا فقط على السّرطان، وهذا يؤثّر على هوية المريض التي تُقلّص بسبب ما أصابه من مرض، وفي أحيانا أخرى هناك من لا يتحدّث عن الأمر وهنا يخشى المريض من أن يُرهق أو يُزعج الآخرين. غالبا ما تقوم العائلة بأمور كثيرة بحثا على أن تقدم ما هو أفضل لمريضها ولكن أحيانا مثل ذلك قد يُفقد المريض استقلاليته وهذا ما يُجّرده من قدرته على الفعل.
إن اهتمام العائلة الشديد بأي تفصيل من أجل حماية المريض قد تكون عواقبه سلبية حيث تنحو نحو إفراط في الحماية وقد يقوده إلى هشاشة من جديد على مستوى الهوية فقد يفقد تقديره لذاته.
بالنسبة للمريض في حد ذاته قد يجد صعوبة كبرى للتحدث عن المرض لأبنائه أو زوجه ( شريك حياته ) وهذا ما نجده لدى بعض الحالات التي لم تخبر زوجها ولا أبناءها الذكور ولا كنتها وأخبرت فقط ابنتها الكبرى، وهناك من أخفى عن عائلته الصغرى وأخبر فقط شقيقه أو شقيقته، كما توجد حالات لا تعلم بمرضها وتعيش هواجس المرض ولكن أهلها هم يعلمون، ولكن من الحالات من تدرك فجأة الأمر ليس على يد أهلها بل شخص آخر قد يكون طبيبا أو ممرضا أو شخصا آخر أو حتى من ملف وضع صدفة على سرير المريض؛ وهذا ما لاحظته لدى مراهق يبلغ 17 سنة أخفى عنه والده الذي كان يعمل بمصلحة طبية فقد وجد اسمه على الملف مع ذكر التشخيص باللغة الفرنسية فبحث عنه في الانترنت فعلم أنه سرطان الدّم .
بالنسبة للأبناء أطفالا أو مراهقين قد تتغير أدوارهم وسلوكياتهم عند إصابة الأم أو الأب بالسّرطان فإذا كان الابن الأكبر قد يتقلد مسؤولية أكبر منه ليهتم بمن هم أصغر منه، وقد ينغمس في هذه الوضعية دون أن يشعر بطفولته، وقد يشعر بالذنب إزاء أحد والديه بسبب المرض، والبعض منهم قد ينكر المرض ويُظهر عدوانية فيرفضون المرض أو يهوّنون منه دون إشفاق على أوليائهم، وقد تظهر لديهم اضطرابات سلوكية تترجم صعوبات تكيفية مثل : الكوابيس، تراجع في النتائج الدراسية، انعزال،...
وتمثل المراهقة مرحلة حساسة وحرجة وتعد مرحلة أزمة وإدراك الطفل للموت ( موت شخص عزيز بسبب السرطان) لا يكون كإدراك المراهق فالطفل الصغير لا يعي حقيقة الموت ولكن بالنسبة للمراهق يمكن أن يُدخله في نوبات هلع، قلق، اضطرابات سلوكية، وغيرها .
بالنسبة لــــ دلفو (Delvaux)« فالتقبل ذو صلة مع مستوى التكيف الوالدي، بما أن الوالدين يقدمان صعوبات تكيفية فلديهم أطفالا يجدون أيضا صعوبة في التكيّف » .
فأن تكون مريضا لا يعني أمرا سهلا ولكن أن يكون قريب منك تحبه مريضا أمر أصعب لاسيما إن كانت أساليبنا ومواردنا غير كافية للتدخّل، من أجل حمايته، مساعدته، تشجيعه، وتوفير ارتياح نفسي وبدني له.
ملاحظة : أعزائي الطلبة للمزيد من الاطلاع يمكنكم العودة إلى :
- Gestionnaire: SAOUSSANE TALEB