برنامج مقياس ابستيمولوجيا علم السياسة
مدخل
المحور الأول: الابستيمولوجيا (أصولها وتطورها).
أولا: تعريف الابستيمولوجيا وتطورها التاريخي.
ثانيا: علاقة الابستيمولوجيا بالعلوم المعرفية (نظرية المعرفة، علم المناهج).
ثالثا: النظرة الابستيمولوجية للمدارس الفكرية (المدرسة الأنجلوسكسونية، المدرسة الوضعية المنطقية، والمدرسة الفرنسية).
المحور الثاني: الابستيمولوجيا وعلم السياسة.
أولا: ماهية علم السياسة ومراحل تطوره.
ثانيا:
تعريف النظرية ومستوياتها في العلوم السياسية.
ثالثا: ابستيمولوجية "كارل بوبر" ونظرته للمجتمع المفتوح.
رابعا: ابستيمولوجية "توماس كون" وبنية الثورات العلمية.
خامسا: ابستيمولوجية "إمري لاكاتوس" ومنهجية برامج البحث العلمي.
سادسا: ابستيمولوجية "بول فايربند.
المحور الثالث: الأسس المعرفية للنظرية السياسية.
أولا: الأسس الدينية للنظرية السياسية.
ثانيا: الأسس السيكولوجية للنظرية السياسية.
مدخـــل
إن البحث في تاريخ العلم History of science يستوجب النظر في بعديه: الابستيمولوجي والسوسيولوجي، فالمفاهيم العلمية تتبلور خلال صيرورتها وتتطور في كافة ميادين العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والسياسية. ولكل مرحلة من مراحل تطور العلوم سياقها المفهومي الحاص بها لابد من مراعاته ونقده، ومراعاة التطور التاريخي الذي أنتج وينتج نظريات علمية جديدة.
كما أن تاريخ العلم بكافة أبعاده وعبر صيروراته التراكمية والثورية، قدم الكثير من المعايير التي اعتمدها العلماء للوصول إلى مبادئ وأفكار علمية جديدة، ويسعى الباحثون إلى اعتماد معيار علمي قادر على تأسيس بنية علمية من خلال التمييز بين العلم واللاعلم واستبعاد بعض الفروض غير الملائمة، وهذا ما ستكشفه الدراسة في مجال علم السياسة من خلال النقد العلمي الابستيمي للفروض والمتغيرات والنظريات في الدراسات السياسية.
يتم تناول ابستيمولوجيا علم السياسة من خلال تحليل ماهية السياسة وفلسفتها ومسلماتها وافتراضاتها الكبرى، وأسس ومصادر مشروعيتها العلمية وأهدافها وإشكالاتها المنهجية، والمصادر المعرفية لنظرياتها الكبرى وأنساقها المعرفية، يعد كل ذلك ضرورة معرفية ومنهجية لتحديد كيف تشكل حقل علم السياسة وكيف تمت صياغة نظرياته ومناهجه، والخلفيات الفكرية الكامنة وراء العمليات المعرفية التي تم من خلالها الوصول إلى اقترابات علمية أو نظريات سواء كانت جزئية أو كلية.
المحور الأول: الإبستيمولوجيــــا (أصولـــها وتطورهــــا).
تعتبر الابستيمولوجيا من العلوم المعرفية الحديثة النشأة نسبيا، والتي تهتم بنقد المعرفة العلمية بهدف الكشف عن مبادئها وظروف نشأتها وتفسيراتها للواقع، من حيث الاهتمام بالمفاهيم والآليات المنهجية والنتائج المتوصل إليها في مختلف العلوم.
أولا: تعريف الابستيمولوجيا وتطورها التاريخي.
الابستيمولوجيا فرع من فروع الفلسفة، فهي تهتم بنظرية المعرفة ولها معاني مختلفة.
• المعنى اللغوي: تعني الابستيمولوجيا "فلسفة الكلمة" وفقا لتعريف "غاستون باشلار"، فهي مصطلح إغريقي مؤلف من كلمتين هما:-
- إبستيم (Epstime): ومعناها علم (وهو موضوع الابستيمولوجيا).
- ولوغوس (Logos): ومعناها علم، نقد، نظرية، دراسة.
وتدل كلمة ابستيمولوجيا على فلسفة العلوم، علم العلم، علم المعرفة أو نقد العلم.
وكان أول من وضع هذا المصطلح هو الفيلسوف الاسكتلندي "جيمس فريديريك فيريه" (1808-1864) حين ألف كتابه "مبادئ الميتافيزيقا"، إذ قسم الفلسفة إلى قسمين: الأنطولوجيا والابستيمولوجيا. أما المعنى المعاصر لمصطلح الابستيمولوجيا في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية.
• المعنى الاصطلاحي:
يعرف أندري لالاند الابستيمولوجيا على أنها: " الدراسة النقدية للمبادئ، والنتائج الخاصة بالعلوم، تهدف لمعرفة أصولها المنطقية، قيمها وثقلها الموضوعي، فهي إذن عبارة عن المبحث الذي يعالج معالجة نقدية مبادئ العلوم المختلفة وفروعها ونتائجها، بهدف ارساء أساسها المنطقي، كما أنه يشهد تجديد قيمة العلوم، ودرجة موضوعيتها...".
تدرس الابستيمولوجيا وعي الإنسان بالعالم، المؤسس على أكبر قدر ممكن من الموضوعية، أما بخصوص البحث الابستيمولوجي فهو لا يمكن أن يصبح علميا، إلا إذا تحور من الجذور الفلسفية وارتكز على المنهج العلمي الذي يقوم على الاختبار والتحقيق، الأمر الذي يمكنها من الاندماج في العلم والتحلي بخصائصه ومميزاته.
لذا تبنت الابستيمولوجيا منهجا يتضمن ثلاثة أفكار أساسية:-
- تفترض الابستيمولوجيا عدم وجود نهاية للعلم، بسبب عدم قناعتها يوصول العلم إلى غايته النهائية.
- تفترض الابستيمولوجيا عدم وجود معرفة قطعية، فعندما يتطور العلم تتطور المعايير المكونة للحقائق تدريجيا، وليس دفعة واحدة، فالحقائق تتغير بتغير مستوى المعرفة.
- ترفض الابستيمولوجيا فكرة وحدة العلم، أي لا تعتقد بوجود علم واحد، بل بوجود عدة علوم متغيرة الحدود والتراكيب.
إذن الابستيمولوجيا هي دراسة نقدية لمبادئ مختلف العلوم وفرضياتها ونتائجها، بغية تحديد أصلها المنطقي وقيمتها ومداها الموضوعي، وهكذا فلابستيمولوجيا تعني نقد أساليب نقل المعرفة، ودراسة طرق نقل المعرفة ومضامينها.
وترتكز الابستيمولوجيا على التطور العمودي والأفقي للمناهج والنظريات والأفكار، ويقصد ب:-
- التطور العمودي: هو المراحل التي قطعتها النظرية أو مرت بها، أي الانتقادات الزمنية للنظرية.
- التطور الأفقي: الانتقالات المكانية والجغرافية للنظرية أي كيف انتفلت النظرية من حقل معرفي إلى حقل معرفي آخر ومن بلد إلى آخر.
لقد وجدت العديد من المنظورات الفكرية التي ساهمت في إثراء حقل الابستيمولوجيا، فهناك (كارل منهايم) الذي يرى أن أهمية البحث الابستيمولوجي تكمن في اعطاء اهتمام بالمعرفة وكيفية وصولها إلينا، ويعتبر (برتراند راسل) أول من أصل لمفهوم الابستيمولوجيا في القرن العشرين.
وهناك أيضا مداخل ابستيمولوجية أخرى للتقدم العلمي، يذكر منها: "نظرية الدحض أوالتكذيب" لكارل بوبر، أيضا " بنية الثورات العلمية" لتوماس كوهن، "مفهوم البرامج البحثية" لإمري لاكاتوس، و"التعددية المنهجية" لبول فايرباند.
التطور التاريخي للابستيمولوجيا.
تعد الابستيمولوجيا أحد الافرع الثلاثة التي انقسمت إليها الفلسفة وهي: الايستيمولوجيا، والأنطولوجيا وهو مبحث الوجود والماهية أو الوجود بما هو موجود، والأكسيولوجيا وهو مبحث القيم والجمال، تعتبر الابستيمولوجيا من العلوم التي تهتم بدراسة المعرفة العلمية ومبادئها وافتراضاتها ونتائجها.
قبل أن تصبح الابستيمولوجيا فرعا مستقلا، فقد كانت جزء لا يتجزأ عن الفلسفة، ويعد أفلاطون من العهد اليوناني أول من أصل لهذا العلم، حيث حاول أن يتعامل مع الأسئلة الأساسية مثل: ما هي المعرفة؟ وأين توجد؟ وكم من معرفة نعرفها هي معرفة حقيقية؟ وهل الإحساس يمدنا بالمعرفة؟ وهل يستطيع العقل الوصول إلى المعرفة؟ وما هي العلاقة بين المعرفة والاعتقاد الصحيح؟
إن التطور العلمي الذي حصل في مجال العلم منذ بدايات عصر النهضة الأوروبية هو ما أدى إلى تغير طبيعة العلاقة بين العلم والفلسفة، فظهرت الابستيمولوجيا لكي تقدم مهاما جديدة تتلاءم وهذه العلاقة، ورغم ما قدمه أصحاب الفكر العقلي الذين عاصروا بدايات الثورة المعرفية التي اكتسحت أوروبا أمثال: إيماويل كانط، ديكارت الذين كانوا يهتمون يشكل خاص بنظرية المعرفة ولم تصل مستويات أبحاثهم إلى مستوى الابستيمولوجيا أو المعرفة العلمية.
فقد توصل ديكارت إلى افتراض الثبات في العقل الإنساني انطلاقا من الاعتماد على عقلانية واحدة ومنهج واحد، وبذلك فإن ديكارت يتبنى ما يطلق عليه العلم العام أو الشمولي، وهو ما يتعارض مع منحى الابستيمولوجيا المعاصرة التي تعتمد الجانب العلمي والتجريبي في الدراسات وفي التحصيل المعرفي.
وترجع أسباب عدم اعتبار أعمال ديكارت أعمالا ابستيمولوجية لثلاثة أسباب:-
1. أن ديكارت بنا الحقيقة واليقين العلمي على الميتافيزيقا التي تتنافى معها الابستيمولوجيا.
2. معيار الحقيقة العلمية عند ديكارت هي الاعتماد على العقل النظري، بينما الابستيمولوجيا معيارها التجربة الإجرائية.
3. أن فلسفة ديكارت مجرد تنظير للمنهج العقلي وليست عملا علميا.
يرى كارل مانهايم أنه من دواعي الاهتمام بحقل الابستيمولوجيا يرجع إلى أنه: " منذ أن تم تحطيم الرؤية الدينية الأحادية للعالم وجب علينا أن نعطي اهتماما بالمعرفة وكيقية وصولها إلينا أو إلى الوجود".
تختلف الأدبيات حول الاستعمال والاستخدام الأول لمفهوم الابستيمولوجيا، إذ ربط البعض في دراساتهم لفلسفة العلوم بالاعتماد النزعة الوضعية التجريبية الإنجليزية، والتي ركزت في أبحاثها على الجانب العلمي التجريبي ومن أشهر روادها يذكر: فرانسيس بيكون، جون لوك، برتراند راسل، ويعتبر بعض المفكرين الآخرين أن الابستيمولوجيا ترجع إلى منتصف القرن 19 حيث تحدث عنها الفيلسوف "فريديريك فيريه" في كتابه "مبادئ الميتافيزيقا" سنة 1834.
الابستيمولوجيا بوصفها مبحثاً مستقلاً موضوعه المعرفة العلمية، لم تنشأ إلا في مطلع القرن العشرين، إذ لم تشهد منذ الإغريق حتى بداية القرن 20 تطورا كبيرا، وقد اتجهت إلى تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم، والخطوات التي يتألف منها، وإلى نقد العلوم والعودة إلى مبادئها العميقة، وذلك بتأثير التقدم السريع للعلم، والاتجاه نحو التخصص المتزايد، وما ولدّه ذلك من تغيّر في بنية منظومة العلوم، ومن صعوبات وإشكالات ذات طبيعة نظرية.
ثانيا: علاقة الابستيمولوجيا بالعلوم المعرفية (نظرية المعرفة، علم المناهج).
يتداخل موضوع الابستيمولوجيا كفرع مهتم بقضايا العلم مع العديد من العلوم المعرفية التي تتخذ من العلم والمعرفة موضوعا لها، ما يجعلها تتقاطع معها كنظرية المعرفة والميثودولوجيا.
1. علاقة الابستيمولوجيا بنظرية المعرفة.
تهتم نظرية المعرفة بتحليل طبيعة المعرفة وارتباطها بالترميزات والمصطلحات مثل: الحقيقة، الاعتقاد، التعليل والتبرير...كما تدرس نظرية المعرفة وسائل انتاج المعرفة، كما تهتم بالشكوك حول ادعاءات المعرفة المختلفة.
يرى أغلب العلماء المعاصرين ضرورة التمييز بين الابستيمولوجيا ونظرية المعرفة استنادا إلى أن الابستيمولوجيا تهتم بنظرية المعرفة العلمية، بينما تتناول نظرية المعرفة كل أنواع المعارف. وبهذا يوجد ثلاثة اتجاهات أساسية:-
• الاتجاه الأول: يعتمده الفلاسفة الأنجلوسكسونيين اللذين يستخدمون اللفظين بالمعنى نفسه، فنجدهم يعرفون الابستيمولوجيا أو نظرية المعرفة بأنه ذلك الفرع من فروع الفلسفة الذي ينصرف إلى دراسة طبيعة المعرفة وحدودها.
• الاتجاه الثاني: يمثله موقف الابستيمولوجيين الفلاسفة الذين يقربون بين مفهومي الابستيمولوجيا ونظرية المعرفة، فالابستيمولوجيا تبحث في صورة خاصة من صور المعرفة وهي المعرفة العلمية، فالابستيمولوجيا تقتصر على شكل وحيد من أشكال المعرفة.
• الاتجاه الثالث: يمثله الفلاسفة المنتمون إلى الوضعية المنطقية والذين يرفضون أن تكون هناك أية علاقة بين الابستيمولوجيا ونظرية المعرفة، فلا يعترفون بأية نظرية في المعرفة لا تكون تحليلا منطقيا لقضايا العلم.
بناءا على ما سبق، يعتبر العلماء أن أية معرفة في الوقت الراهن هي معرفة علمية، وأن أية دراسة في نظرية المعرفة هي دراسة في نظرية العلم.
2. علاقة الابستيمولوجيا بعلم المناهج.
الميثودولوجيا اشتقاقا تأتي من (méthode) وهي مشتقة من (methodos) اليونانية، ومعناها الطريق إلى أو المنهج المؤدي إلى...، وبعد تطور الكلمة باتت تدل على مجموعة العمليات العقلية والعملية، الممارسة التي يقوم بها العالم من بدء بحثه إلى نهايته من أجل الكشف عن حقيقة أمر أو واقع ما، والبرهان على الفرضيات الموضوعة للوصول إليه.
يعتبر علم المناهج (méthodologies) جزءا من المنطق، فهو الدراسة الوصفية لمناهج البحث المعتمدة في شتى العلوم، بينما الابستيمولوجيا فهي دراسة نقدية تبحث فضلا عن المناهج في الأسس والنتائج كما يرى لالاند في موسوعته الفلسفية.
يرى "روبير بلانشيه" بأن الابستيمولوجيا لا يمكن أن تبحث في مبادئ العلوم وقيمتها وبعدها الموضوعي دون التساؤل حول قيمة وطبيعة المناهج المستخدمة.
وهكذا، فلا يمكن الفصل بين المفهومين، فالتفكير الابستيمولوجي يبدأ عندما تكون هناك أزمات في العلوم، ف"بياجيه" يشدد على التكامل بين العلمين، إذن فالعلاقة بين الابستيمولوجيا وعلم المناهج تتمثل في أن علم المناهج يقدم الدراسة الوصفية المستخدمة في تحصيل المعارف العلمية، ثم تتعدى الابستيمولوجيا ذلك إلى الدراسة النقدية الرامية لاستخلاص المبادئ التي يقوم عليها التفكير العلمي.
ثالثا:
النظرة الابستيمولوجية للمدارس الفكرية (المدرسة الأنجلوسكسونية، والمدرسة الفرنسية).
يتشكل العلم جزئيا من خلال التيارات الفكرية والتغير الأوسع في اطار بيئته الاجتماعية، ونتيجة للصراعات الفكرية داخل الجماعات العلمية والبحثية، تطورت المدارس الفكرية في اطار تحليل اشكالية العلاقة الابستيمولوجية بين العلم والمعرفة، والتي سوف تقدم كالتالي:-
1. المدرسة الأنجلوسكسونية.
أ. فرنسيس بيكونFrancis Bacon : (1561-1626) بيكون فيلسوف انجليزي، يعتبر أول من وجه الفكر الفلسفي نحو التجربة الحسية باعتبارها المعيار الوحيد لتقرير المعرفة العلمية. وقد أبدا بيكون رفضه للفلسفات التأملية، وأعلن على صيغة الجزم بأن معرفة الأشياء لا تتم إلا بالملاحظة المركزة.
لقد صاغ بيكون مقولته حول الغرض من اقتفاء التجربة والملاحظة في المعرفة: " لا نستطيع السيطرة على الطبيعة إلا إذا أصغينا إليها (بمعنى نلاحظها) وما يكون علة في البحث النظري يتحول إلى وسيلة في التطبيق العملي". وعلى هذا وضع بيكون ثلاث ألواح (قوائم إحصاء) يختبر من خلالها الباحث علة الأشياء وهي:-
لوحة الحضور: وهي القائمة التي تحصى فيها كل الظروف التي يمكن أن تتسبب في ظهور حادثة ما.
لوحة الغياب: وهي القائمة المحصية لكل الظروف المتسببة في غياب حادثة ما.
لوحة التدرج: هي القائمة التي تفحص التغير الايجابي أو السلبي الذي يمس الحادثة.
تسمح الألواح الثلاثة عند تجريب الأحداث عليها وتحليلها وتصنيفها، الاعتماد بعد ذلك على الاستقراء الشرعي، وهذه الأخيرة تتضمن مرحلتين: الإقصائيةو الإثباتية.
تمثل الألواح الثلاثة صلب التجربة البيكونية، وقد أحدث الفيلسوف قطيعة معرفية بين مرحلة الفيلسوف أرسطو التأملية ومرحلة بيكون التجريبية، والاستقراء هو قلب هذا التحول المعرفي.
ب. جون لوك John Lock: (1632-1704) فيلسوف إنجليزي من رواد التجريبية، يعتبر أول من حاول بيان طبيعة الأفكار العلمية من الأفكار العامية. يرفض جون لوك الأفكار والمبادئ الفطرية لأنه كين يمهد لتأسيس الفكر التجريبي. يعتبر لوك أن الأفكار الحسية هي أول ما يعرفه الإنسان وهي نتيجة تأثر حواس الإنسان بالموضوعات الخارجية، أما الأفكار التأملية فهي عند قيام الفكر بعملية فكرية كالإدراك والتفكير والتشكيك، ويرى لوك أن دراسة المعرفة يجب دائما أن تبدأ بنقد اللغة من أجل تحديد المعنى، كما نبه إلى مسألة اللغة ومسألة المعرفة وحصولهما في العقل، وبهذا فقد وضع لوك اللغة والمعرفة العقلية تحت محك الدراسة التحليلية النقدية وهكذا فقد انتقل لوك بالدراسة الابستيمولوجية والفكر الابستيمولوجي المعاصر إلى خطوة متقدمة جدا.
ج. دافيد هيوم David Hume: (1711-1776) يميز دافيد هيوم بين عنصرين هما الانطباعات والأفكار، أما الانطباعات فمنها ما هو حسي وما هو تأملي، أما الأفكار فهناك البسيطة والمركبة. وللتركيب قانون خاص يسميه دافيد هيوم بقانون الترابط الذي يحتوي على ثلاث قواعد هي: قاعدة الترابط بالتشابه، قاعدة الترابط بالتقارب، وقاعدة الترابط العلي، وهاته الأخيرة هي التي أثارت جدلا كبيرا، ومفاد هذه الفكرة أن علة ما يتبعها دائما معلول، وهذه العلاقة هي وليدة التجربة والمشاهدة التي تفرضها العلاقة بالأشياء.
د. جون ستيوارث ميل Jhon Stuart Mill: لقد استطاع جون ستيوارت ميل في القرن 19 من تقنين مجموعة من الطرق المنطقية التي اعتبرت طرق لاختبار الفروض التي يقدمها الباحث أو العالم كتفسير للظاهرة المدروسة، وتتمثل طرق البحث التجريبي التي قدمها جون ستيوارت ميل في: طريق الاتفاق، طريق الاختلاف، طريق الجمع بين الاتفاق والاختلاف، طريقة التغير الافتراضي.
2. المدرسة الوضعية المنطقية (دائرة فيينا).
تأسست الوضعية المنطقية مع بدايات القرن العشرين، وقد ارتكزت في برنامجها الفكري على إحداث تحول جذري في الفلسفة، من أكبر روادها وأشهرهم يذكر برتراند راسل، لودويج ويتجاينشتين، رودولف كارناب، موريس شليك، ركز فكرها العلمي على المنطق في صورته الرياضية والفيزياء في صورتها النسبية، وبهذا اعتمدت الأسس التالية:-
• العلم ناتجا، وبنية من المقولات الرقمية واللغوية.
• الاعتمام بالتبسيط، وتوضيح البنية والتماسك المنطقي للمقولات.
• بعض المقولات قابل للاختبار والتأكيد أو الخطأ من خلال الملاحظة الحسية للواقع.
• العلم تراكمي على نحو ملحوظ.
• العلم متجاوز الثقافات في الغالب.
• العلم يقوم على نتائج ذات صلة بشخصية الباحث.
• العلم يحتوي على نظريات وتقاليد بحثية قابلة للقياس.
• العلم يشمل أفكار جديدة قد لا ترتبط بالأفكار القديمة.
• العلم ينطوي على فكرة وحدة العلم، فكل حقول العلوم هي علم واحد عن عالم حقيقي واحد.
أ. لودويج ويتجاينشتين Ludwig Wittgenstein: لودوينج من أكبر مؤسسي مدرسة فيينا، يعتبر أن الهدف من الفلسفة هو توضيح الفكر، كما تعمل على التحقق من العلم بمختلف أنواعه الرياضية، المنطقية أو الأخلاقية، كان يرى في الدقة والصرامة شروطا أساسية في منطق اللغة مهما اختلفت وتنوعت الموضوعات، فالفلسفة ما هي إلا محاولة لتوضيح التعبيرات اللغوية.
ب. رودولف كرناب Rudolph Carnap : لقد تأسس فكر كرناب على المنهج المنطقي الرياضي كأساس لوحدة العلوم، وقد كان يستخدم التخليل المنطقي للقضايا مع إقرار لمبدأ التحقيق أو الاختبار، وتقوم فلسفة العلوم عند كرناب على:-
1. مسألة الحقيقة العلمية والعقلانية، 2. مسألة المناهج وأدوات تحصيل المعرفة.
3. قضية الموضوعية والذاتية والنسبية. 4. علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الإنسانية من حيث المناهج والدقة وغيرها، 5. قضية اللغة العلمية وطرق تحليلها.
إن مضمون فلسفة العلوم عند كرناب هو المعرفة العلمية، التي ينظر إليها من زاوية المناهج والمفاهيم والتحليل اللغوي المنطقي لقضايا العلم.
3. المدرسة الفرنسية.
أ. التيار النقدي: هو تيار تابع للفكر الفرنسي يفترض أن هناك حقيقة يمكن اختبار صحة أو خطأ أفكارنا عنها، كما تدرك وجود الحدس ومحدودي المعرفة اليقينية، يعتبر هذا الاتجاه أن فهم المجتمع في حد ذاته إشكالية، وبالتالي تجعل تعريفات الحقيقة الاجتماعية السائدة محل تساؤل، ويتم حل هذا الجدل العام من خلال الاحتكام إلى الحقائق.
يدرك التيار النقدي أن كل علم له افتراضات مسبقة وأحكام نوعية، وأن لها سياق تاريخي يؤثر في العلم، وأن العلم عملية اجتماعية، وأن المعقولية هي أفضل النتائج التي يمكن الحصول عليها في العلم، ويمكن تعزيزها باستخدام مناهج واجراءات واقترابات متعددة، وأن العلم يشجع على الخيال والإبداع والحدس والتبصر، وأن العلم لا يعترف باللايقينيات.
من المسلمات الأساسية للتيار النقدي نذكر ما يلي:-
1. العلم كيان من المقولات اللغوية والرقمية يعبر عن طبيعة الحقيقة.
2. يتضمن العلم الاهتمام بالبنية المنطقية للمقولات وتماسكها والعلم يستخدم لتحقيق أهداف البشرية.
3. يقوم على افتراض أن الحقيقة يمكن معرفتها من خلال حدود الحواس والعقل الإنساني، فالحقيقة ليست مطلقة وإنما قابلة للخطأ وحدسية وشرطية.
4. العلم تراكمي، وحتى القفزات العلمية "الثورات" تتضمن العديد من الاكتشافات.
5. العلم يواجه تهديد المصداقية بسبب التحيزات الثقافية تشرح الحقيقة.
6. العلم يواجه تهديدات المصداقية بسبب التحيزات الشخصية والاجتماعية للباحث.
7. يحتوي العلم أفكارا جديدة متصلة أو متقطعة عما سبقها ، لكنها تسير جنبا إلى جنب في مساراتها.
8. يتضمن العلم وحدة أساسية للعلوم.
ب.
القطيعة الابستيمولوجية عند "غاستون باشلار".
• غاستون باشلار (Gaston Bachelard)
فيلسوف فرنسي ولد في بارسورب أوب عام 1884، حصل عام 1912 على اجازة في الرياضيات، درس الفيزياء والكيمياء ثم تابع تقدمه في الجامعة حتى حصل على شهادة التبريز في الفلسفة عام 1922، ثم دكتوراه في الآداب عام 1927. درس في السوربون مادة فليفة العلوم حتى عام 1955 حيث أصبح أستاذا فخريا، ثم أشرف على معهد العلوم الأخلاقية والإنسانية، وحاز على الجائزة القومية للآداب عام 1961.
من أهم مؤلفاته: "محاولة في المعرفة المقاربة"، "القيمة الاستقرائية للنسبية"، "تكوين الروح العلمي"، و"مساهمة في التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية"، "الروح العلمي الجديد" (1934)، و"المادية العقلية" (1953)، توفي في باريس سنة 1962.
• تعريف القطيعة الابستيمولوجية.
يعرف "غاستون باشلار" القطيعة الابستيمولوجية أنها: " القفزات الكيفية في تطور العلوم ويكون من نتائجها تجاوز العوائق الابستيمولوجية القائمة".
يقول محمد الوقيدي: " ليست هناك قطيعة ابستيمولوجية حاسمة ونهائية، فكل فترة من تاريخ المعرفة العلمية عوائقها، وعندما تحدث قطيعة ابستيمولوجية داخل فكر علمي لكي تسمح بفضل ذلك قيام فكر علمي جديد".
ويعتبر "باشلار" أن "تاريخ العلوم جدل بين العوائق الابستيمولوجية والقطيعات الابستيمولوجية".
هذا الجدل الذي يتحدث عنه باشلار خاص بالتاريخ العلمي يعني أمرين:-
• أولهما: أنه لا نهاية لتاريخ العلوم، وأن ليس هناك حقيقة علمية ما تعتبر نهائية؛ أي أن العلم يتطور بإخضاع حقائقه ومبادئه للجدل (المراجعة).
• ثانيهما: يتعلق بالعلاقة ضمن ذلك التاريخ بين القديم والجديد.
أي إن تاريخ العلوم قفزات كيفية تحقق قطيعة بين الفكر العلمي والمعرفة العامة، بحيث لم يعد من الممكن النظر إلى النظريات المعاصرة من وجهة نظر المعرفة العامة.
يتحدث باشلار في كتاباته عن مفهوم القطيعة الابستيمولوجية الى مستويين هما:-
• قطيعة ابستيمولوجية بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية.
• قطيعة ابستيمولوجية تتحقق مع النظريات العلمية المعاصرة بين العلم في الماضي والفكر العلمي الجديد (الابستيمولوجيا التاريخية عند غاستون باشلار).
أولا: القطيعة الابستيمولوجية بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية.
يرد باشلار على دعاة الاستمرارية ببعض الأمثلة منذ اكتشاف الحقائق العلمية المعاصرة، لكي يبين أن فهمها يتم انطلاقا من المعرفة العامة، ومن أهم مظاهر هذه القطيعة ما يلي:-
المظهر الأول: هو أن دعاة الاستمرارية يرجعون إلى إثارة مسألة الاستمرارية في التاريخ بصفة عامة، لأنهم يروا تاريخ العلوم جزء من التاريخ العام، باعتبار أن التاريخ سلسلة مترابطة من الأحداث، فيقول هيغل: " إن كل دولة تجسد مرحلة جزئية من الفكرة الكلية والفكرة تفرض نفسها في التاريخ في مراحل مختلفة من الزمان والمرحلة السائدة في حقبة من الحقب يجسدها شعب معين وهذه المراحل المتتالية تشكل تاريخ العالم".
كما يقول ابن خلدون: " إن التاريخ يدور حول نفسه، وإن الدول التي تتداول الجكم، والتي لا تتعدى فيه حكم كل منها عمر الإنسان، أنها تنطلق الواحدة منها من أساس الذي انطلقت منه الدول السابقة".
يرد باشلار على ذلك بقوله: " إن ما يميز العلم الحديث هو الموضوعية وليس الشمولية الكلية، فلا مناص للفكر من أن يكون موضوعيا، ولن يكون شموليا إلا إذا استطاع ذلك وإلا إذا كان الواقع يسمح بذلك". أي إن الموضوعية تتعين في الدقة والتناسق بين المحمولات وليس في تجميع موضوعات متناظرة نسبيا.
يقدم لنا باشلار مثال على عدم استمرارية المعرفة العامة إلى المعرفة العلمية، فهو يفرق بين المصباح الكهربائي والمصباح العادي، إذ ليسن عناك علاقة تكوينية بينهما، ولكن هما متماثلان إذ يضيئان عند سقوط الظلام، إذن فالمعرفة العامة ليست استمرار للمعرفة العلمية.
المظهر الثاني: يحاولون في هذا المظهر دعاة الاستمرارية الحديث عن الاكتشافات العلمية أنها نتيجة التأثيرات، غير أن هذا المفهوم للتأثير في نظر باشلار لا يفسر السير الخاص لتاريخ المعرفة العلمية ولا يعطي الدلالات الحقيقية للاكتشافات العلمية الجديدة.
المظهر الثالث: يتمثل في دعاة الاستمرارية إلى اللغة العلنية، يرى باشلار أن اللغة العلمية تمثل قطيعة مع اللغة العادية.
المظهر الرابع: يرى باشلار أن ""المعرفة العلمية تفصل بينهما بالرجوع المستمر إلى التركيب العقلي.
ثانيا: الابستيمولوجيا التاريخية عند "غاستون باشلار.
درس باشلار عدم ثبات النظريات العلمية، وضرورة تحركها وتغيرها مع اختلاف المراحل التاريخية، وأكد أن الصواب يتولد من المحاولات الخاطئة، وقد كان اهتمام باشلار منصبا على التفكير والتساؤل حول الثورة العلمية المعاصرة والمجسدة في الهندية الاقليدية والنظرية النسبية وكل ما تحقق في مجال اللامتناهيات في الصغر والكبر والتعقيد، وكانت ميزة باشلار الانطلاق من أنه في العلم ليس هناك حقائق أولية بل أخطاء أولية. وتميز اسهامه في مجال الابستيمولوجيا ب:-
أ- نظرية المقاربة العلمية: والتي تقوم على رسم ووصف المعرفة العلمية باعتبارها مقاربة للموضوع، وهذه النظرية تذهب وبشكل مؤكد من العقلي إلى الواقعي، فالفكر العلمي هو بالدرجة الأولى تطبيق ذو قدرة على التحقيق وعلاقة التجربة بالنظرية هي علاقة جدلية (حركة مزدوجة) لذا يجب:-
ادراك الفكر العلمي المعاصر في جدله.
عدم وجود ابستيمولوجيا موحدة، اكل مجال علمي ابستيمولوجيته وهذا عكس الوضعية التي تفترض وحدة المنهج والنموذج.
وظيفة الابستيمولوجي: شرح تركيب العقل والتجربة تركيبا متحركا متغيرا، والعلاقة بينهما تكمن في أن الفكر العقلاني يسبق الاتصال بالتجربة، ولكن التجربة تأتي بدورها لتفجر كل التنظيمات العقلية التي يكون الإنسان قد بناها في ذهنه.
ب- الابستيمولوجيا اللاديكارتية: إن تأسيس هذا النمط من الابستيمولوجيا الجديدة جاء بناء على السؤال: هل تكفي الابستيمولوجيا الديكارتية أو التقليدية المعتمدة على الأفكار البسيطة إلى تفكير الثورة العلمية المعاصرة؟
يرى باشلار أن الطريقة الديكارتية طريقة إرجاعية وليست استقرائية، وإذا كانت قد نجحت في تفسير العالم المبسط فإنها فاشلة في تفسير العالم المعقد هو الموضوع الحقيقي للفكر العلمي المعاصر وللابستيمولوجيا على وجه التحديد.
ج- فلسفة النفي: إن عقلانية بدون أدلة حسية لا يمكن اقتناؤها، وتجربة بدون قوانين واضحة متناسقة، استنتاجية لا يمكن اعتمادها. تجلى هذا الموقف في مناقشة باشلار لمسألتين هامتين في الفلسفة والمعرفة العلمية وهما: العقل والحقيقة.
في مفهوم العقل: يرى باشلار أن العقل يتأثر بتطور الأفكار العلمية، كما أنه لا يمكن تبرير فكرة الحدود المتعلقة بقدرة العقل على المعرفة من الناحية الابستيمولوجية.
في مفهوم الحقيقة: ليس هناك حقيقة ثابتة أو نهائية وهذا هو خطأ الفلسفات التقليدية التي بنت أنساقها الفلسفية على اعتبارات علمية نهائية أو اعتقاد بنتائج نهائية للعلم، غير أن الحقيقة العلمية هي حقيقة نسبية، حقيقة في جوهرها لها مستقبل، وهي لا تعرف الحدود، فهي مرتبطة بتطور وسائلنا وناهجنا المعرفية وهي حقيقة لها تاريخ.
المحور الثاني: الابستيمولوجيا وعلم السياسة.
أولا: ماهية علم السياسة ومراحل تطوره.
1. ماهية علم السياسة.
أ. تعريف العلم.
العلم مجموعة متراكمة من المعرفة، التي يتم برهنة صحتها موضوعيا، والتي تتعلق بالإنسان، أو الطبيعة، أوالمجتمع. وهناك من يعرف العلم أنه مجموعة من المبادئ والقواعد، التي أثبت التجريب صحتها، والتي تتعلق بجانب ما معين، من جوانب الحيان المتعددة.
إذن العلم هو الأفكار المتتالية المترابطة، وكذلك الوسائل التي عن طريقها يتم الحصول على هذه الأفكار (المعرفة)، كما يعني الدراسة العلمية (وما يتمخض عنها من مبادئ وقواعد علمية) لظاهرة من ظواهر الكون.
ب. تعريف السياسة.
لغة: تعود أصل كلمة السياسة إلى العصر اليوناني وتحديدا في القرن 05 قبل الميلاد، حيث ارتبطت بمجتمع المدينة أو دولة المدينة وتقابلها باليونانية (Polis)، وتترجم بالفرنسية (Politique)، والإنجليزية (Politics).
والسياسة من ساس الأمر إذا قام به، وهي القيام على الشيء بما يصلحه جاء في الحديث الشريف: " كان بنو اسرائيل يسوسهم أنبياؤهم"، أي تتولى أمورهم، وتدبر شؤونهم.
والسياسة أيضا بمعنى الأمر والنهي، ومنه قولهم (سست الرعية سياسة إذا أمرتها ونهيتها)، وتكون بمعنى التأديب والتجربة واكتساب الخبرة.
اصطلاحا:
السياسة في المنظور الإسلامي تختص بالرعاية والتدبير وهدفها تحقيق الصلاح، وهي تعني الرياسة وادارة الحكم.
أما المدرسة الغربية فتعرف السياسة بأنها فن حكم الدولة، ويعرف علم السياسة بأنه علم حكم الدول أو دراسة المبادئ التي تقوم عليها الحكومات.
ترتبط كلمة السياسة في قاموس "" علم فن الحكم، أو هي العلم الذي يهتم بشكل وتنظيم وادارة دولة ما، فضلا عن اهتمامه بترتيب علاقات الدولة بالدول الأخرى باختلاف سياساتها الداخلية.
ويعرفها هارولد لاسويل بأنها: " من يحصل على ماذا؟ متى؟ وكيف؟ ويذهب إلى القول أن دراسة السياسة تتمحور حول دراسة النفوذ والتأثير.
يذهب موريس دوفرجيه في تعريفه للسياسة للقول أنها: " علم السلطة المنظمة في الجماعات الإنسانية كافة" ويورد أيضا تعريفين آخرين في كتابه: " فكرة السياسة": "أن السياسة هي علم حكم الدول".
بصفة عامة يمكن القول أن التعاريف الواردة حول مصطلح السياسة قد تمحورت حول محورين رئيسيين هما:-
محور دراسة الدولة ومؤسساتها المختلفة وأوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ومحور دراسة القوة والنفوذ والسلطة أوالقدرة والتصارع عليها.
الواقع أنه يصعب تحديد تعريف جامع شامل لمصطلح السياسة، ويرجع ذلك إلى صعوبة تحديد الظاهرة أو الظواهر السياسية كونها متغيرة وغير ثابتة لأن التفاعل الرئيسي فيها هو الإنسان، فضلا عن أن تعريف علم السياسة شهد تطورات عديدة، بسبب التطورات العلمية والنماذج الفكرية التي تسود تلك المراحل والتطورات.
ج. تعريف علم السياسة.
لقد اختلفت تعاريف "علم السياسة" نظرا لاختلاف الزاوية التي ينظر منها الباحثون عند تعريفهم لهذا العلم. فعلم السياسة هو ذلك العلم الذي يتناول ظاهرة السياسة في المجتمعات الإنسانية بالدراسة (العلمية) بهدف فهمها، واكتساب القدرة على شرح المتغيرات المختلفة التي تتعلق بها، وتفسير العلاقات المتنوعة بين تلك المتغيرات والتنبؤ بتقلباتها المختلفة.
أما "دافيد ايستن" فيعتبر أن علم السياسة هو: الدراسة العلمية (وما ينتج عنها من قواعد ومبادئ)، لظاهرة السلطة السياسية، وكل ما يتعلق بها".
وظائف وموضوعات علم السياسة.
وظائف علم السياسة.
إن أهمية "علم السياسة" تنبع من أهمية الظاهرة التي يتناولها، التي يتحتم على الإنسان فهمها فهما علميا، حتى يتمكن من التأثير فيها، بما يتلاءم وغاياته ومصالحه. هدف علم السياسة هو الكشف عن الحقيقة في مجال الظواهر السياسية؛ أي معرفة ما هو "كائن".
كما يبرز الدور الأساسي لعلم السياسة في تغيير المجتمعات وتقدمها، لأنه لا يمكن تحقيق التغيير الاجتماعي دون الاهتمام بالدولة والسلطة والشعب، فمهام العلوم السياسية هي خلق الوعي السياسي الاجتماعي، وادارة الأزمات التي تواجه الدول والمجتمعات، وادارة العلاقات الدولية من جهة، والسعي لإيجاد الأخلاق الكونية من جهة ثانية.
موضوعات علم السياسة.
حاولت لجنة متخصصة في العلوم السياسية، عقدت تحت رعاية منظمة التعليم والثقافة والعلوم التابعة لهيئة الأمم المتحدة، تحديد موضوع علم السياسة ومجالات البحث فيه، فأصدرت سنة 1948 قائمة تشمل موضوعات البحث العلمي الرئيسية في علم السياسة، وحددت بأربع: النظرية السياسية (هي محاولة بحثية للتوصل إلى القوانين)، الفكر السياسي، النظم السياسية، العلاقات الدولية.
د. مراحل تطور علم السياسة.
لقد مر علم السياسة في تطوره بثلاث مراحل متميزة وهي:-
1. المرحلة التقليدية: التي جسدت بروز وهيمنة المدرسة التقليدية بغلبة المداخل التاريخية والقانونية والمقارنة في دراسة الظواهر السياسية، إن محور تركيز علماء السياسة في هذه المرحلة المبكرة، كان على التطوير التدريجي للأفكار الديمقراطية والفهم العلمي للسياسة، إلى جانب الاهتمام بتطور التاريخ الدبلوماسي للشعوب.
2 . المرحلة السلوكية: وهي مرحلة نشأت مع بداية الخمسينات حينما برزت المدرسة السلوكية، التي استفادت من التقدم الذي أحرزته العلوم الطبيعية والتطبيقية، وبالتالي أضفت سمات الموضوعية والدقة والقياس والقدرة على التنبؤ في مجال الدراسات السياسية.
3. مرحلة ما بعد السلوكية: وهي مرحلة برزت منذ عقد الستينات تهدف إلى التوفيق بين آراء المدرسين السابقين عن طريق مراعاة الطبيعة المميزة لظاهرة سياسية أو أخرى، إلى جانب محاولة تضييق الهوة بين النظرية والتطبيق.
ثانيا:
تعريف النظرية ومستوياتها في العلوم السياسية.
1. تعريف النظرية.
لابد لكل حقل معرفي من نظرية أو نظريات، وذلك حسب طبيعة الحقل المعرفي موضع الدراسة، إن تطور النظرية وعمق التنظير يشكلان العنصر المفتاحي للوصول إلى العلم، لأن النظرية تزودنا بطرق لترتيب الحقائق، وتحويلها إلى بيانات ومعلومات، وتقوم النظرية بعد ذلك بانتقاء المعلومة المهمة والمفيدة من بين المعلومات المتاحة، وتستفيد منها في عمليات الوصف والتصنيف، والتحليل والتفسير والتنبؤ.
يعرف (كينث والتز) في كتابه "نظرية السياسة الدولية" النظرية أنها: " مجموعة من القوانين المتعلقة بسلوك ظاهرة معينة".
ويرى "إبراهيم البشير عثمان" أن: " النظرية جهد عقلي تركيبي يعنى بالارتباط الموضوعي بين الحقائق البديهية والمسلمات الجزئية، ونسجها على منوال موحد،... ولما كانت المحدودية هي احدى خصائص الادراك البشري، فان النظرية تشترك مع القوانين العلمية في كونها نسبية وتقريبية، إلا أنها في الوقت نفسه أقل تأكدا من القوانين، لذا ينظر إليها على أنها فرض من الدرجة الثانية. ويزداد يقين العلماء بالنظريات كلما أيدتها التجارب من ناحية، وكلما فسرت أكبر عدد من الظواهر والقوانين من ناحية أخرى".
إذن فالنظرية تركيب تصوري رمزي يستوعب سلسلة من المقدمات الضرورية، التي تسهم في الوصول إلى تفسير واستبصار مستقبل الظاهرة المدروسة.
يعرف كل من "جيمس دوروتي" و"روبرت بالستغراف" النظرية بأنها: عبارة عن اختيار مجموعة من الظواهر المحددة وتفسيرها تفسيرا عاما..." أو إنها:" تنظيم المعلومات بشكل يمكن معه تقديم أجوبة سليمة لأسئلة تثيرها لظاهرة موضوع الدراسة".
عناصر النظرية.
1. التعريفات: تحتوي النظرية على جمل تقدم تعريفات للمصطلحات التي تشير إلى المفاهيم الأساسية.
2. الفرضيات: هي أداة تعمل على كشف حقائق وعلاقات جديدة، كما إنه أداة لترتيب وتوجيه البحث.
3. الوصف: وهو عرض حول أجزاء أو علاقات شيء معين ويمكن أن يربط بالتصنيف والتعريف والتحديد.
4. التحليل: وهو التجزئة وتفتيت الكل إلى أجزائه الأساسية وإخضاعها إلى التجربة الكمية والكيفية التفصيلية، ويمكن أن ترتبط
5. التركيب: وهو تجميع الأجزاء في شكل الكل، من الأفكار والقوى المختلفة إلى تركيب معقد، متماسك ومتصل.
تعريف المنهج وإشكالية النموذج المعرفي في الدراسات السياسية.
1. تعريف المنهج.
يؤكد بعض دارسي فلسفة العلوم أن المنهج هو العنصر الثابت والملازم للعلم على الدوام، ودونه لا يوجد علم.
فالمنهج لغة، هو الطريق البين إلى الحق في أيسر سبله، ويقدم المعجم الفلسفي تعريفا له بأنه وسيلة محددة توصل إلى غاية محددة. وجاء في لسان العرب: طريق، نهج: بين وواضح، ومنهج الطريق: وضحه. تشتق كلمة "منهج" من نهج أي سلك طريقا معينا، ومن ثم فإن كلمة المنهج تعني الطريق أو السبيل، ويعرف كذلك بأنه الطريقة المتبعة.
أما اصطلاحا فالمنهج هو مجموعة قواعد وأساليب دراسة ظواهر وقوانين الطبيعة والمجتمع والفكر، ومنهج أي علم يعد محصلة لمعرفة قوانين تطور مادة هذا العلم، يضم المنهج عناصر النظرية، ومنهجية البحث وأساليبه.
2. إشكالية النموذج المعرفي في الدراسات السياسية.
هل يوجد نموذج معرفي أو نسق معرفي في حقل الدراسات السياسية؟ قياسي بمعنى أنه الأصح الذي يتم القياس عليه؟
• تعريفه: هو مجموعة متناسقة من القيم والعقائد والمذاهب والمناهج والنظريات والتقنيات التي يستخدمها أعضاء مجتمع علمي في حقل معرفي ما، ويتخذونها مرشدا ومرجعا للحكم على نظرياتهم ومدى شرعيتها، كما يستخدم أيضا لحل المشاكل والألغاز، ويسود في حقبة من الزمن، وفي الحقبة التي يسود فيها يطلق على هذه المرحلة مرحلة العلم الاعتيادي أو القياسي.
• الخلاف بشأن النماذج المعرفية في حقل الدراسات السياسية: هناك من يرى وجود نموذج معرفي سائد في حقل الدراسات السياسية في حقبة من الزمن، وقد ذهب قابريال ألموند أن العلوم السياسية أو علم السياسة شهدت نموذجين معرفيين:-
- النموذج التقليدي الذي ساد مع نهاية القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية وأطلق عليه اسم النموذج التقليدي بينما ساد النموذج الثاني الذي حل محله منذ الحرب العالمية الثانية وأطلق عليه النموذج السلوكي.
- هناك طرف ينفي وجود نموذج معرفي سائد، بل يرى وجود نماذج معرفية أو قياسية متعايشة، إذ لا يمكن أن يسود نموذج معرفي واحد في حقل الدراسات السياسية والاجتماعية، وإنما يمكن أن يتعايش مجموعة من النماذج في آن واحد، ففي فترة وجود الأنموذج السلوكي كان هناك الماركسي واستمرار الأنموذج التقليدي، القانوني والتاريخي.
يمكن أن يدرس علم السياسة عبر منظارات وليس عبر نماذج معرفية، فهناك توجهات نظرية كبرى تتعايش فيما بينها وليس سيادة نموذج معرفي واحد، فهناك ما يسمى ب"التوافق المعرفي" ولا يعني بالضرورة توافقا زمنيا فقد يختلف الفكر زمانا ولكنه يتوافق في مضمونه أو في منطقه وآلياته ومناهجه مثال: ابن خلدون ودوركايم وماكس فيبر.
ثالثا:
ابستيمولوجية "كارل بوبر" ونظرته للمجتمع المفتوح.
مولد ونشأة كارل بوبر
كارل بوبر فيلسوف نمساوي، وعالم منطق واجتماع، عاصر تطورات علمية ومعرفية وسياسية كبرى، منها: النظرية النسبية ونتائجها الثورية، الماركسية واشكالية تطبيقها، وانتشار الفرويدية فضلا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، شغل منصب محاضر للفلسفة في جامعة كنتربري في نيوزيلندا ما بين 1937 و1945، كما وعمل محاضرا للمنطق بجامعة لندن ما بين 1945 و1949، وأستاذا للمنطق ومناهج العلوم بمدرسة لندن للاقتصاد ما بين 1949و1969، ورئيس قسم الفلسفة والمنطق ومناهج العلوم في المدرسة الأخيرة الذكر ما بين 1945 و1966.
من أهم مؤلفاته: "مشكلتان أساسيتان لنظرية المعرفة" سنة 1932، "منطق الكشف العلمي" سنة 1934، "المجتمع المفتوح وأعداؤه" سنة 1945، "عقم المذهب التاريخي" سنة 1945، " تخمينات وتفنيدات" سنة 1963، "المعرفة الموضوعية" سنة 1972.
المنطلقات الفكرية لكارل بوبر.
ركز كارل بوبر على فحص نقدي للأفكار وكان له تأثير قوي في الجماعة العلمية بدعوته العلماء إلى أن يبحثوا عن تكذيب أفكارهم أكثر من التحقق منها، واقترح وضع حد فاصل بين العلم الحق والعلم الزائف والاهتمام بسوسيولوجية العلم.
بالنسبة لبوبر، النشاط العلمي لا ينبغي أن ينطلق لا من الملاحظة، ولا من التجريب بل من صياغة فرضيات تخضع فيما بعد للتجريب الذي سيمكننا وخدة من التخلي عن البعض منها، وكل فرضية تصمد أمام الدحض إنما هي الفرضية التي يقع الاحتفاظ بها ومن وجهة النظر هذه، تظل كل نظرية افتراضية وقابلة للمراجعة، يقول كارل بوبر: "
« Les théories scientifiques, si elle ne sont pas falsifiées, restent toujours des hypothèses »
" النظريات العلمية إذا لم تفند، تبقى دائما فرضيات"
من وجهة النظر هذه يصبح الخطاب العلمي خطابا نسبيا وبالتالي قابل للتجاوز، هكذا يفرض الدحض نفسه كمنهج علمي ينبغي اعتماده لرفض النظريات اللاعلمية، وبناء عليه يمكن القول: " أن أفضل اختبار للنظرية هو البحث عما يفندها بدلا من التثبت من صحتها"، ومن وجهة النظر هذه العلم ليس انعكاسا بل هو قراءة للواقع تعتمد نماذج قابلة للدحض.
وذهب كارل بوبر إلى أن الفرض أو النظرية يمكن انقاذها دائما من مأزق التكذيب، إذا عززناها بفروض إضافية، وطبقا لبوبر يكون هذا مسموحا به فقط لو أن الفرض المساعد الجديد أو الفروض تزيد من عدد النتائج الملاحظة. ذلك لأنها ينبغي أن تزيد من المضمون الإمبريقي للنظرية، وإن لم تفعل ذلك، ينظر إلى الفرض المساعد بأنه وضع لغرض، وهو غير مسموح به طبقا للقواعد المنهجية المفضلة لدى بوبر.
المجتمع المفتوح عند كارل بوبر.
يعتبر كارل بوبر في فلسفته السياسية أن الحياة عملية لا تتوقف عن حل المشاكل، لذلك كان يطالب بمجتمع يتيح وييسر حل المشاكل أيا كان نوعها، ولأن حل المشاكل منوط بقدرة الأفراد وجرأتهم على طرح اقتراحات جريئة لحلول تجريبية تقبل النقد وتتيح استئصال الخطأ فإن أفضل أشكال المجتمعات هي تلك التي تؤكد على حرية طرح الاقتراحات المتباينة ومن ثم نقدها وتصويبها، دون أن يلحق بأصحابها أذى جسدي أو معنوي.
هذا المجتمع أيضا قادر على تحقيق أهداف أفراده، وقادر على حل مشاكلهم أفضل من أي مجتمع منظم وفق أسس أخرى.
- يعتقد بوبر أن أكثر المجتمعات كفاية هي مجتمعات ذات طابع ديكتاتوري هو تصور خاطئ، كما يعتبر من جهة أخرى أن الديمقراطية لا تضفي أي مزايا على المواطن، فالديمقراطية لا توفي أكثر من مجرد اطار يمكن للمواطنين أن يعملوا داخله بطريقة منظمة ومتماسكة.
- إن السياسات التي تتبناها الحكومات ليست في حقيقة الأمر إلا مجموعة قرارات إدارية وتنفيذية تتضمن تنبؤات تجريبية، فالسياسة افتراض يجب اختباره على أرض الواقع، وتصحيحه على ضوء معطيات الخبرة، وستواجه الباحث في هذا الاختبار نوعان من الأخطاء:-
1. نوع يمكن الكشف عنه مسبقا أي قبل بلوغ مرحلة التنفيذ عن طريق الفحص النقدي والمناقشة النقدية.
2. ونوع آخر يتعذر الكشف أو التعرف عليه إلا من خلال الفحص النقدي للنتائج العلمية.
لذلك فإن "كارل بوبر" يدعو إلى اليقظة النقدية الدائمة وإلى تعزيز مطلب إمكان تصحيح البرامج والسياسات عن طريق استئصال الخطأ في أي وقت من أوقات التطبيق العملي. وعلى ذلك فالسلطات التي تعارض المناقشة النقدية المسبقة لبرامجها تحكم على نفسها بارتكاب الأخطاء بشكل مستمر، وعندما تحظر الفحص النقدي للنتائج العملية لتطبيق البرامج تحكم على نفسها باستمرار بتفاقم الأخطاء إلى أن يستفحل أمر الأخطاء ويبدأ ضرر النتائج غير المقصودة بالتأثير.
يعتبر "كارل بوبر" أن المناهج السياسية تحتاج إلى اختبار ويتم ذلك عن طريق البحث عن الوقائع التي تدحض الأطروحة السياسية التي هي قيد الاختبار، لا عن طريق البحث عن الوقائع أو الأدلة التي تؤكد أن الأطروحة قيد التطبيق تعطي النتائج المرجوة.
المنهج عند "كارل بوبر" هو منهج المحاولة والخطأ، وهكذا فبينما تبحث النظم الاستبدادية عن مؤيدات لأطروحاتها السياسية، وهو إجراء غير عقلاني يخالف المنهج العلمي، فالنظم الديمقراطية تبحث عن الأخطاء التي تدحض أطروحاتها.
المجتمع المفتوح عند "كارل بوبر" هو: " ذلك المجتمع الذي يمكن من خلاله التعبير عن آراء متعارضة والسعي لتحقيق أهداف متناقضة، مجتمع الفرد فيه حر في أن يستقصي ما يشاء من معضلات وأن يقترح ما يشاء من حلول، مجتمع الفرد فيه حر في أن يستقصي ما يشاء من معضلات وأن يقترح ما يشاء من حلول، مجتمع الفرد فيه حر أن يوجه النقد لسياسات تتبناها الحكومات، ومجتمع فيه مناهج حكومية قابلة للتغيير على ضوء معطيات النقد".
ماهية النظام المغلق.
يعرف "كارل بوبر" النظام المغلق أو المجتمع المغلق أنه: " مجتمع قبلي نموذجي ثابت، تسيطر فيه المحرمات بشكل صارم على كل وجوه الحياة ويكون دور الفرد فيه مرسوما مسبقا لا يمسه التبديل".
وقد أطلق عليه توماس كوهن "الأرثوذكسية العلمية"، ويقسم هذا النسق البشرية إلى عوالم ثلاثة قياسا على معيارية التجربة الأوروبية الغربية حيث:-
• العالم الأول: هو العالم الصناعي الحديث الديمقراطي المتمثل في غرب أوروبا والو.م.أ واليابان وأستراليا والتي تسوده نظم ديمقراطية ليبرالية تعددية تنافسية.
• العالم الثاني: متواجد في شرق أوروبا وامتدادها في آسيا وكان يطلق عليه الاتحاد السوفياتي سابقا والنظم الاشتراكية.
• العالم الثالث: يمثل باقي دول العالم في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، وهي دول متنوعة من حيث النظام السياسي والايديولوجية، وتتمتع بنقص في الشرعية السياسية وغياب ثقة جماهيرها، تمتلك اقتصادا متخلفا وتمتاز بالفقر.
ثالثا: ابستيمولوجية "توماس كوهن" الثورات العلمية.
مولد ونشأة توماس كوهن.
توماس كوهن عام فيزياء نظرية، ولد سنة 1922، ثم مؤرخ متخصص ومقتدر، قام بتدريس تاريخ العلم في أعرق المعاهد الأمريكية: جامعة هارفارد (1952- 1956)، ثم جامعة باركلي بكاليفورنيا، ثم المعهد التكنولوجي في ماساشوستس، ينظر إليه على أنه الممثل الرئيسي لحركة الربط بين تاريخ العلم وفلسفة العلم من خلال الميثودولوجيا.
قدم دراسة للتاريخ ويعتبر أنه إذا أدركنا أن التاريخ ليس مجرد سرد أحداث متعاقبة فسوف يحدث تاريخ العلم تغييرا جوهريا في تصور العلم الذي يسيطر على الأذهان، ويتضح ذلك من خلال دراسته التمهيدية في " للتاريخ دور" التي جعلها مقدمة لكتابه الشهير "بنية الثورات العلمية".
المنطلقات الفكرية لتوماس كوهن.
الثورات العلمية عند توماس كوهن هي تلك الأحداث النظرية غير المتراكمة التي يكون فيها نموذج قياسي أو إرشادي جديد محل نموذج إرشادي قديم ومناقض وهي بمثل الثورات العلمية والثورات السياسية.
ذهب توماس كون إلى أن الثورات السياسية تبدأ عن طريق احساس مطرد النمو بأن المؤسسات القائمة قد توقفت عن مواجهة المشاكل التي تفرضها البيئة.
وبالصورة نفسها تبدأ الثورات العلمية عن طريق احساس مطرد النمو بأن النموذج الارشادي قد توقف عن تأدية الدور المنوط به الكشف عن جانب من الطبيعة التي يمهد فيها الطريق لهذا النموذج الإرشادي نفسه، ووقوع الأزمة شرطا أساسيا للثورة.
وعلى هذا الأساس يتم قبول النماذج المعرفية طوعا من طرف الجماعة العلمية، وعلى أساس عوامل كثيرة صعبة التحديد ليست من طبيعة علمية خالصة بل واجتماعية، ثقافية ونفسية.
ويأتي تبدل النماذج المعرفية بظهور مهمات علمية جديدة، ونمط جديد من النظريات العلمية وأساليب جديدة أفضل في حل الألغاز.
أساسيات منهج توماس كون.
- العودة إلى دور وقرار مجتمع العلماء فيما يتعلق بقبول المعرفة العلمية.
- المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن السياق الاجتماعي.
- المعرفة نتاج فردي وجماعي في ذات الحين.
- العلم ليس تراكميا.
- يوجد تناظر تام في المعاملة بين المهزومين والمنتصرين في تاريخ العلوم.
- فكرة النموذج تقوم على التمييز بين مرحلتين في مسيرة العلم وتقدمه وهي مراحل العلم العادي أو السوي، الذي يسير في اطار النموذج القياسي الإرشادي، وبين المراحل الثورية في هذا التقدم والتي هي انتقال من نموذج ارشادي لآخر.
رابعا: ابستيمولوجية "امري لاكاتوس" ومنهجية برامج البحث العلمي.
مولد ونشأة امري لاكاتوس.
يأتي امري لاكاتوس العالم المجري (1922- 1974) في طليعة الفلاسفة الأشد تجريدا وتجسيدا للوعي التاريخي في فلسفة العلم، استقر في انجلترا في مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة لندن التي كان كارل بوبر أستاذا للمنطق بها، كان امري لاكاتوس من أنجب تلامذة بوبر وأخلصهم.
تميزت أعماله بالإعراض عن منطق تبرير المعرفة العلمية، وتوجه إلى العناية الفائقة بمنطق الكشف والتقدم العلمي مؤكدا على تيار الوعي التاريخي. كان امري لاكاتوس صاحب مشروع علمي كبير في هذا المجال وحال دون إتمامه رحيله المفاجئ على إثر حادث سيارة. يعتبر صاحب القول الشهير: " فلسفة العلم من دون تاريخه خواء، وتاريخ العلم من دون فلسفة عماء".
المنطق الفكري عند امري لاكاتوس.
اشتهر امري لاكاتوس بورقته البحثية " التكذيب ومنهجية برامج البحث العلمي "
(Falcification and the methodology of progress research)
لقد حاول أن يعيد لتاريخ العلم بناءاته العقلانية، فقد عمل على جعل النظريات العلمية والطريقة التي بها تكذب والعمليات التي تفتح بها النظريات أوفر مجالا لنظرية أخرى أو فرض آخر.
منهجية برامج البحث العلمي بالنسبة للاكاتوس تتضمن القرارات التي يتخذها العلماء والاختيارات التي يقومون باختيارها عن طريق تنشيطها لنواة صلبة ومساعدا على الكشف الايجابي للبحث العلمي.
إن المشاكل التي يختارها العلماء المشتغلون على برامج للبحث اختيارا عقلانيا هي المشاكل التي يحددها المساعد على الكشف الايجابي، يقول لاكاتوس: " إن المنهجية التي أدعو إليها هي أن التجاوزات العلمية العظيمة ليست سوى برامج بحث يمكن تقويمها في حدود مشكلة الدورات المتقدمة والمتفتحة، حيث تشتمل الدورات على برامج بحث واحد يتخطى في التقدم آخر ويحل مله، هذه المنهجية هي اعادة بناء عقلاني جديد للعلم".
يشدد لاكاتوس بالقول أن الوحدة الأساسية لتقويم نظرية لا ينبغي أن تكون حشدا من النظريات، وإنما يكون برنامج بحث، صلب النواة مقبولا اصطلاحيا لا يمكن دحضه لمجرد قرار مؤقت.
يتألف برنامج البحث من سلسلة متعاقبة من الأبحاث المنجزة من قبل باحث ينتج فيها قواعد منهجية، ويقول في ذلك: " يتألف البرنامج من قواعد منهجية تدلنا بعضها على طرق البحث التي نتجنبها سماها المساعد على الكشف السلبي، أما البعض الآخر منها فتدلنا على الطرق التي شكلها وسماها المساعد على الكشف الايجابي".
لقد تمايزت مع لاكاتوس ثلاثة (03) أنواع أو مقومات في اعتبار الظاهرة العلمية هي:-
أ. المعايير المنطقية والميثودولوجية.
ب. التاريخ الداخلي أو نمو المعرفة الموضوعية العقلانية (التقدم الابستيمولوجي).
ج. العوامل الامبريقية السوسيوسيكولوجية الخارجية ليست عوامل عقلانية.
لقد كان هدف امري لاكاتوس هي كيف يتعلم فيلسوف العلم من تاريخه؟ ويلزم على مؤرخ العلم أن يصغي بانتباه لفلسفته.
خامسا: ابستيمولوجية "بول فيرباند".
مولد ونشأة بول فيرباند.
كان بول فيرباند أحد أهم الفلاسفة المعاصرين الذين وضعوا حدا نهائيا للنظرة اللاتاريخية في العلم، ومعه بلغ الوعي التاريخي للعلم أوجه، واعتبر كتابه " ضد المنهج: مخطط تمهيدي لنظرية فوضوية في المعرفة" التي صدرت طبعته الأولى سنة 1975 بمثابة آخر انهاء النظرية التبريرية اللاتاريخية للمعرفة العلمية، الفترة التي عايشها بول فيرباند كانت ما بين 1924 و1994.
المرتكزات الفكرية لبول فيرباند.
كانت أهم مرتكزات المشروع الفكري لبول فيرباند إنطلاقه من نقد النظريات القديمة أو الكلاسيكية في فلسفة العلم، وتقديم نظريات أخرى بديلة مستندا إلى التطورات الحديثة في العلوم، وقد تجلى موقف فيرباند من التجريبية المعاصرة في:-
1. تقديم نظرية جديدة تتضمن تغيرات فيما يتعلق بما هو ملاحظ وبما لم يلاحظ.
2. التأثير الشامل للنظرية العلمية يبدو أعمق بكثير مما يتصور أصحاب الاتجاهات الكلاسيكية.
3. النظريات عند فيراباند قابلة للاختبار، وترفض بمجرد أن يتضح أن الاختبار لا يتضمن النتيجة التي نتنبأ بها.
إن هدف العلم عند التجربيين المعاصرين يتمثل في التفسير والتنبؤ بوقائع بمساعدة نظريات، وهذا ما جعل فيراباند يقول: " إن ما هو مدرك يعتمد على ما هم معتقد، وأن النظرة التحليلية النقدية للنظريات العلمية تكشف بوضوح تام أن كل نظرية علمية تفرض خبرتها الخاصة، لذا فإن النظريات العلمية ليست سوى طرق معينة في النظر للعالم، وبالتالي فإن تبني هذه النظريات يؤثر على معتقداتنا وخبراتنا". أما النظرية فهي كل يتألف من نسق من الفروض الإمبريقية.
سادسا: العوائــق الابستيمولوجيــة لتطور علم السيـــاسة.
لقد واجه تطور علم السياسة العديد من العقبات والعوائق، ولكن الابستيمولوجيا قدمت مساهمات كبيرة كأداة للبحث التعليمي في العلوم الاجتماعية والسياسية على حد سواء، وتمثلت في :-
1. لقد ساهمت الابستيمولوجيا كمقاربة تاريخية في مساعدة المتلقي واعطائه خلفية مهمة حول تشكل وتطور دلالات المفاهيم، فهي تلقي الضوء على السياق العام لمختلف الإضافات العلمية والظروف التاريخية التي ظهرت فيها.
2. تكشف الابستيمولوجيا عن الفرق بين المعرفة العلمية والمعرفة غير العلمية والقواعد التي ترتبط بالموضوعية، وتوضح تأثير مختلف الفاعلين في العملية المعرفية.
3. تقدم الابستيمولوجيا ايهاما كبيرا في التعرف على العقبات التي تواجه العلوم ومحاولة تجاوزها والمساعدة في تحقيق أهداف البحث العلمي.
مفهوم العائق الابستيمولوجي.
العائق الابستيمولوجي مفهوم وضعه "غاستون باشلار" في اطار المنهج الذي افترضه لفهم تاريخ العلوم في حقيقته وواقعيته ضمن كتابه: " شكل الفكر العلمي"، والعائق الابستيمولوجي هو: " مجموع الأفكار والتصورات المسبقة أو الخاطئة أو التي تم استبعادها مع تقدم الفكر العلمي، أو الأفكار التي ترجع إلى المعرفة العامة، والتي تؤثر في عمل العالم دون وعي منه، وتعوقه عن بلوغ الحقيقة الموضوعية للظواهر التي تدرسها".
ومن العوائق الابستيمولوجية التي واجهت تطور علم السياسة هي:-
1. التداخل بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية، فهناك تداخلات على مستوى اللغة، مما يؤدي إلى ظهور تعميمات زائفة ومقارنات غير موضوعية، تجعل من الظاهرة السياسية إنتاجا يحتاج دائما إلى فحص دقيق يتجاوز بها مرحلة الملاحظات الأولى نحو الملاحظات المبنية على أساس منهج علمي.
2. تعقيد الظاهرة السياسية، مما يستدعي الباحث إلى الاستعانة بعلوم أخرى ومناهج مغايرة، خاصر وأن الظاهرة السياسية اجتماعية بطبعها إذ لا تصور لها خارج المجتمع، كما أن الظاهرة السياسية ظاهرة تاريخية تتعلق بمجريات والسيرورات التاريخية.
3. خضوع الظاهرة السياسية في تطورها وتفاعلها مع الظواهر الإنسانية الأخرى لمتغيرات كثيرة ومتنوعة، يصعب معها الحصول على قوانين عامة وثابتة تحكم الظاهرة.
4. تقاطع تحليل الظاهرة السياسية بذاتية الباحث وايديولوجيته.
5. التغير الدائم في مميزات ومظاهر المجتمع الدولي.
6. الخلط في مستويات التحليل بين الظاهرة السياسية وتحليل الحدث السياسي، لذلك فلابد من التمييز بين العنصرين.
7. التشبت بالأحكام المسبقة والآراء الشخصية ورفض كل جديد مخالف لما وقع التعود عليه.
المحور الثالث:
الأسس المعرفية الابستيمولوجية للنظرية السياسية.
يستلزم التحليل الابستيمولوجي للنظريات السياسية عملية تفكيك متعددة الأبعاد لبنيتها المعرفية، سواء في مفاهيمها الاطارية أو مستوياتها وإشكالاتها المنهجية، أو كصادرها المعرفية أو أنساقها وأطرها الكلية بحيث يتم الدوران حول هذه النظريات من مختلف الجوانب للوصول إلى أقرب تصور عن الحقيقة.
كما أن محاولة التأصيل لتطور النظريات السياسية من خلال المنطق الابستيمولوجي يركز على تحليل الكيفية والمصادر التي من خلالها تشكلت هذه النظريات والحجية والمصداقية التي تتمتع بها، لذلك لابد من الوقوف عند النموذج أو النماذج المعرفية التي سادت في الحقل السياسي، سواء خلال المرحلة السلوكية، أو المرحلة التقليدية أو المرحلة ما بعد السلوكية.
أولا: الأسس الدينية للنظرية السياسية.
لقد تشعب مجال عمل النظرية السياسية وتداخل مع علوم أخرى، بحيث أصبح للنظرية السياسية اهتمامات دينية ويتجلى ذلك في علم الاجتماع الديني، كما تهتم النظرية السياسية بعلم النفس.
لقد أصبحت الظاهرة الدينية مجالا خصبا للدراسة والبحث في المجالين الاجتماعي والسياسي كأحد المتغيرات الرئيسية في العملية السياسية والاجتماعية.
تعددت التعاريف لمفهوم الدين ومنها الشائعة تعريف كارل ماركس للدين بأنه: "أفيون الشعوب الذي يسلب الطبقات المحكومة إرادتها في الدفاع عن حقوقها لصالح الطبقة الحاكمة".
أما كانط فيعرف الدين أنه: " الالتزام بالواجبات باعتبارها أوامر إلهية سامية".
ويعرف أحمد الخشاب الدين أنه: " عبارة عن مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات تجاه عالم مقدس يتمتع بالتقدير والاحترام".
يفرق محمد عبد الله دراز بين الدين والتدين فيقول: " إن الدين بمعنى التدين هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة، أما الدين من حيث هو حقيقة خارجية فيمكن القول أنه جملة من النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها".
يعتبر الدين من الأدوات المهمة للضبط الاجتماعي ومصدر من مصادر شرعية النظم السياسية، ويعد أهم مقومات الاستقرار السياسي التي تتجلى في استمرارية القيادة السياسية، وغياب مظاهر العنف بالمجتمع وظهور الولاء الجماعي للنظام الحاكم.
كما أن اعتماد النظام الحاكم على الدين كنسق للقيم والمبادئ التي يتفق حولها أفراد المجتمع فيما يعرف بالتكامل القيمي، يؤدي بدوره إلى إضفاء المشروعية والمصداقية على الممارسات السياسية للنظم.
ثانيا. الأسس السيكولوجية للنظرية السياسية.
تهتم النظرية السياسية بعلم النفس ويتجلى ذلك في العديد من النظريات السياسية التي تؤسس انطلاقا من ربط الممارسة السياسية بالبنية السيكولوجية لرجل السياسة وللمجتمع بشكل عام، فهارولد لاسويل (1902-1978) مؤسس علم النفس السياسي أقام نظريته السياسية على أسس سيكولوجية، إذ يقول: " أن الحركات التي تستمد حيويتها من تحويل المشاعر الخاصة إلى الموضوعات العامة"، والمنطلق نفسه نجده عند فلفريدو باريتو في نظريته حول النخبة أو الصفوة.
لفهم السلوك السياسي الإنساني وجدت مقاربتين هما:-
المقاربة الأولى: هي مقاربة موقفية، تعد البيئة أو الموقف المحيط بالفرد أكثر أهمية في تشكيل سلوك الفرد أو دوره في المجال العام من نزعاته أو خصائصه الشخصية أو انتمائه الحزبي.
المقاربة الثانية: هي المقاربة النزوعية التي ترى أن شخصية الفرد وما لديه من اعتقادات وقيم وحتى موروثات جينية أكثر تأثيرا في هذا المضمار.
فالسلوك السياسي حدث مدفوع بأسباب داخلية أو مؤثرات خارجية أو بمزيج بينهما.