النظام العقاري الجزائري قبل الاستقلال

كانت الجزائر خاضعة للسلطة العثمانية قبل إحتلال فرنسا لبلادنا، ونظرا لانحصار نفوذ السلطة المركزية في الساحل وبعض المدن الداخلية، بينما تمتعت غالبية الأقاليم الداخلية بالاستقلالية في إطار الحكم القبلي القائم على التقاليد والأعراف، فإن الملكية العقارية وما يتعلق بها من معاملات لم تخضع لنظام قانوني موحد، حيث شهدت المناطق الساحلية وبعض المدن الداخلية تطبيق القوانين العثمانية، أما المناطق الأخرى فكانت خاضعة إما للنظام الإسلامي أو للأعراف والتقاليد القبلية والعرشية.

أما بعد الإحتلال الفرنسي فتميزت الوضعية العقارية بنوع من الفوضى بسبب إختفاء سجلات الإدارة العثمانية وإتلافها ، كل هذا في ظل المضاربة غير المشروعة التي أقدم عليها الأهالي ببيع الأراضي الفلاحية إلى المعمرين دون أن يكون لهم سندات ملكية، وهذا ما يبرر تميز الحقبة الاستعمارية بكثافة النصوص القانونية المتعلقة بالنظام العقاري وتبني سياسات عقارية مختلفة كانت تهدف في مجملها إلى فرنسة الأراضي الجزائرية وتجريد الأهالي من أراضيهم، وعلى ذلك سنخصص المطلب الأول لدراسة النظام العقاري الجزائري أثناء العهد العثماني، أما المطلب الثاني فسنخصصه للنظام العقاري الجزائري إبان الإحتلال الفرنسي.

مراحل تنظيم الملكية العقارية في العهد العثماني

كانت الجزائر خاضعة للإمبراطورية العثمانية باعتبارها صاحبة الخلافة الإسلامية، حيث كانت تتمتع باستقلالية تسيير أمورها الداخلية وحتى الخارجية أحيانا، هذا و أن السلطة الإدارية المركزية والتي كان مقرها الجزائر العاصمة انحصر بسط نفوذها على الشريط الساحلي وبعض المدن الداخلية فقط، وتمتعت غالبية الأقاليم الداخلية بالاستقلالية في إطار الحكم القبلي (1)[1]. [1][1] [1]

هذا وتميز النظام القانوني المطبق آنذاك بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بالإضافة إلى بعض الأعراف المحلية .

و يمكن تصنيف الملكية العقارية (2)[2] آنذاك إلى مايلي:

أراضي الملك والعرش والوقف

أولا : أراضي الملك وهذه الأراضي كثيرة الانتشار وهي تلك التي يملكها أشخاص أو عائلات بصفة فردية أو مشاعة بينهم ولكن ليس لهم عقود (3)[3].

هذا واستغلال هذه الأراضي يتم وفق الأعراف على طريقة الشيوع التي كانت هي المبدأ، وهذا لاعتبارات سسيولوجية كانت تميز المجتمع.

ثانيا: أراضي العرش أو السبقية

وهي ما كان لواضع اليد عليها حق الانتفاع بها فقط وللحكومة الإدارية ضبط كيفية ذلك الانتفاع وتعيين شروطه طبقا لعرف البلد، ويعود التصرف فيها إلى سكان القبيلة أو العرش الذين يقومون عادة باستغلالها جماعيا، لكل بيت أو أسرة نصيب منها حسب إمكانياته وحاجاته، مع ترك جزء من الأراضي للاستغلال الجماعي للانتفاع به في الرعي أو تركه بورا لتتحدد خصوبته، وفي حالة وفاة أحد الأفراد أو إهماله لحصته من الأرض المشاعة فإن أعيان الجماعة يتولون تسليم الأرض لمن يخدمها، وعادة ما يتولى شيخ الدوار أو الدشرة أو العشيرة تنفيذ ذلك، وفي بعض الأحيان عندما تكون القبيلة خاضعة للدولة أو تصبح الأرض مراقبة من طرف الحكام يتولى القائد أو الشيخ المعين من طرف السلطة نيابة عن الجماعة مهمة إقرار ما تعارف عليه أفراد القبيلة.

هذا و قد كانت المنازعات في هذا النوع من الأراضي من إختصاص الجماعة وتصدر فيها أحكام عرفية محلية (4)[4] .

ثالثا: أراضي الحبوس

وتسمى أيضا الأراضي الوقفية وهي العقارات التي حبست لفائدة مشاريع ومؤسسات دينية أو خيرية ويسمى هذا النوع حبس خيري، أما التي حبست على الأولاد وأولاد الأولاد للحيلولة دون التصرف فيها بالبيع أو الهبة فيبقى لهم حق الاستغلال والانتفاع بالعقار حسب ماهو صالح له فتسمى بالوقف الخاص.

هذا وأصبح مدخول الأراضي الموقوفة في الجزائر في الربع الأول من القرن 19يشكل نصف مدخول كل الأراضي الزراعية (5)[5] .

أراضي المخزن والبايلك.

أولا : أراضي المخزن

هي عبارة عن أراضي ممنوحة للجالية العسكرية، حيث أنـــــه عند دخــــــول المستوطن العربي في المخزن تقدم له قطعة أرض وأدوات العمل (أسلحة، حصان) فيكون بذلك المستوطن مزارع وجندي، وبعبارة أخرى فإن الداي او الباي يعطي لكل مستوطن جندي في المخزن حق الانتفاع بتلك الأراضي بشرط تقديم الخدمة العسكرية إثر تسليمه الأمر من القائد مندوب السلطة العثمانية، مقابل احتفاظ الباي بحق سحب الانتفاع بالأرض في عدد معين من الحالات، وهذا الطابع الوقتي أدى بالإدارة الفرنسية فيما بعد إلى اعتبار أراضي المخزن ملكا للدولة (6)[6].

ثانيا: أراضي البايلك

وهي العقارات التي كان يملكها الباي وحاشيته الحاكمة، وكذلك الأراضي العائدة لبيت المال وهي بمثابة أملاك الدولة، وتنقسم إلى دار السلطان والتي كانت تشمل مدينة الجزائر وماجاورها، أراضي بايلك الشرق وعاصمته قسنطينة وأراضي بايلك التيطري وعاصمته المدية، وأراضي بايلك الغرب وعاصمته معسكر قبل انتقالها إلى وهران، وهذه الأراضي خاضعة للإدارة المركزية بالجزائر العاصمة، بالإضافة إلى كل ذلك كانت توجد أراضي يطلق عليها اسم أراضي الأزل (7)[7] وهي تلك التي تقوم الإدارة المركزية بتقديمها للاستغلال من طرف القبائل الموالية لها بعدما كانت قد استولت عليها من قبل القبائل التي ترفض الاعتراف بالسلطة المركزية، بالإضافة إلى أراضي تدعى الأراضي الميتة وهي التي لا يعرف لها مالك، وهي غير مستغلة لا في الفلاحة ولا في الرعي وعلى العموم تدمج في أراضي البايلك.

و من كل ما ذكر سابقا نجد أن النظام العقاري الجزائري خلال العهد العهثماني تميز بالإستقرار والتنظيم الناجمين عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ذلك أن التراضي أساس العقود، ذلك ان الحكام الأتراك بالجزائر اقتصر تنظيمهم للأراضي على مراجعة النظام الجبائي وتطويره، حتى يضاعفوا من مردود الضرائب و لم يدخلوا تغييرات جذرية على أوضاع الملكيات.

النظام العقاري الجزائري ابان الاحتلال الفرنسي

وجد المستعمر الفرنسي غداة احتلاله للجزائر صعوبة في تطبيق قانونه الوضعي على العقار وهذا راجع لتطبيق نظم مستمدة من الشريعة الإسلامية والقواعد العرفية بالدرجة الأولى ، الأمر الذي أدى به إلى خلق سلسلة من النصوص القانونية والتنظيمية (8)[8] يهدف من خلالها الى دمج أملاك الأهالي ضمن الدومين العام للدولة على حساب ملكيات الخواص.

وسوف نتولى بيان أهم تلك القوانين المنظمة للعقار وأثرها على تسليم سندات الملكية وذلك على النحو الآتي:

تأسيس رصيد عقاري للدومين العام للدولة (1830-1856)

كانت فرنسا منذ دخولها الجزائر تفكر في توفير أراضي صالحة للمعمرين، وذلك بتأسيس دومين للدولة استبدالا لدومين البايلك ثم تطبيق القانون الفرنسي على الملكية في الجزائر وكان هذا عن طريق إصدار مجموعة من القوانين وهي:

أولا: أمر أكتوبر 1844

وهذا الأمر كان يهدف إلى:

- رفع كل إعتراض على أموال الحبوس وإلغاء قاعدة عدم قابليتها للتصرف والتملك.

- تحويل أراضي بعض العروش الثائرة إلى الدومين العام بعد تحديدها.

- وجوب حصول المستفيد من الأهالي على سند ملكية مكتوب، وضرورة الاستغلال الفعلي للأراضي الفلاحية و إلا أدمجت ضمن أملاك الدولة الفرنسية ثم إعادة التنازل عنها للمعمرين (9)[9] .

ثانيا : أمر 21 جويلية 1846

لما ادركت الادارة الفرنسية حقيقة الملكية العقارية في الجزائر، ذلك أنها ذات طبيعة جماعية وأراضي عرش بلا سندات رسمية [10] (10)[10] بالاضافة إلى كثرة التعامل العرفي وضياع الدفاتر الجبائية وغياب التوثيق الاداري لدى الأتراك (11)[11] الأمر الذي أدى بها إلى سن الأمر المؤرخ في 21 جويلية 1846 بهدف الاحصاء العام لأراضي الأهالي الخاصة وأراضي العرش من خلال عمليات التحقيق في سندات الملكية، بهدف اعتبار الأراضي غير المملوكة لأشخاص معينين أراضي بدون مالك، وبالتالي تؤول ملكيتها للدولة الفرنسية.

ثالثا : قانون 16 جوان 1851

يعتبر هذا القانون أول نص في الجزائر يسعى إلى تنظيم وحماية الملكية العقارية الخاصة، في ظل النص على عدم التفرقة بين المالكين بما فيهم الأهالي، مع إقراره لمبدأ تحرير ورضائية المعاملات العقارية (12)[12] وخضوعها للقانون الفرنسي متى إشتملت على طرف أوروبي، كما يعد أول نص قانوني في النظام القانوني الفرنسي يميز بين الدومين العام و الدومين الخاص للدولة (13)[13].

سياسة فرنسة الملكية العقارية التابعة للأهالي: 1863-1873

استطاعت الإدارة الفرنسية بواسطة القوانين السابقة تكوين رصيدا معتبرا للدومين العام، غير أن بقاء أراضي العرش شكل عائقا رئيسا لها نظرا لما تمثله للجزائريين، بوصفها أملاكا جماعية لا تقبل التصرف أو البيع، الأمر الذي أدى بالمستعمر إلى التفكير في وضع مشاريع قوانين تؤدي إلى تكسير هذا النوع من الملكية وإعادة توزيعها بعقود فردية لإدخالها نظام السوق العقارية.

ومن أهم هاته القوانين قانون Senatus consulte وكذا قانونwarnier الذين سنتولى دراستهما كالتالي :

أولا : قانون 22 أفريل 1863

والذي يقضي بتقسيم أراضي العرش بين سكان القبائل لتصبح ملكا للأفراد، وبذلك ضمان تحويلها إلى المعمرين الأوروبيين بواسطة تنازلات فردية، ويمكن إلزام المالك ببيع عقاره عن طريق الضغط والتهديد والتفقير الأمر الذي يصعب على الملكية الجماعية.

هذا و قد صاحب هذا القانون استمرار خضوع تنظيم أراضي العرش إلى الأعراف المحلية للأهالي، الأمر الذي أدى بالسلطة الاستعمارية إلى اخضاع كافة الملكيات العقارية في الجزائر إلى القانون الفرنسي وذلك بموجب قانون warnier الذي سنتعرض له.

ثانيا : قانون 26 جويلية 1873 ( مشروع Warnier)

إن قانون 26 جويلية 1873 كان يهدف إلى فرنسة شاملة وكاملة لجميع الأراضي الجزائرية حيث نصت

المادة 1 منه على مايلي:" إن تأسيس الملكية العقارية بالجزائر وحفظها والانتقال التعاقدي للملكيات و الحقوق العقارية مهما كان أصحابها تخضع للقانون الفرنسي" وعليه فان هذا القانون يقضي بخضوع جميع الملكيات العقارية في الجزائر وبكل أصنافها القانونية إلى القانون الفرنسي، ونتيجة لذلك أضحت أراضي العروش أراضي خاصة، يستطيع المعمر شراء العديد منها بعد تجزئتها (14)[14] .

وبذلك ألغى هذا القانون القوانين الإسلامية التي كانت تحكم العقارات في الجزائر، ومهد للاستيلاء على الملكية الفردية التي تمت وفقا لقانون 22 أفريل 1863 القاضي بقسمة أراضي العروش.

ونظرا لما تضمنه قانون Senatus consulte من مخططات مسح جزئية لبعض الدواوير بهدف تأسيس الملكية الفردية عن طريق تسليم المالكين سندات للملكية، تم بمقتضاه إجراء تحقيقات جزئية وجماعية من قبل المفوضين المحققين (15)[15] من أجل تعيين الحدود لمحيط الدواوير وتحديد نمط ملكية الأراضي ملكية خاصة، جماعية، أرض تتبع أملاك الدولة أو أراضي رعي.

إلا أن الأمر لم يتم بصفة عادلة بين المالكين الأوروبيين والأهالي، حيث وصفت سندات ملكية الأهالي بسندات صادرة عن العهد التركي، أو عقد للقاضي الشرعي، لتنقلب أوضاع ملكيات الأهالي إلى غموض في سندات ملكيتهم وذلك لتسهيل التعامل في أراضيهم لصالح المعمرين وبأثمان رخيصة (16)[16] ونتيجة للتحقيقات المباشرة التي جاءت بمقتضى قانون 1873 تم الوصول إلى نتائج سلبية (17)[17] .

فنظرا لشساعة الإقليم الجزائري عرفت عملية التحقيق صعوبة، مما أدى بالإدارة الفرنسية إلى سياسة التطهير لصالح الأوروبيين فقط، عن طريق حصول المعمر على سند نهائي يطهر كل الحقوق السابقة عند ثبوت إكتسابه الأرض من جزائري (18)[18] ، مع استمرار الأهالي في وضعيات القسمة الرضائية و الإستغلال الجماعي للأراضي غير مهتمين بعمليات التحقيق الجماعية التي أسس لها قانون 1873.

كما ان التحقيقات الجماعية المعلن عنها بالدواوير لم تستطع حل إشكالية سندات الملكية عند الجزائريين لغياب السند لدى معظمهم أصلا أو للطبيعة الأصلية للملكية (19)[19] .

كما تجدر الاشارة الى أن المشرع يعتبر السند الفرنسي الممنوح نتيجة لتحقيقات المفوض المحقق نقطة الإنطلاق للملكية القانونية عوض السندات العربية المبهمة.

تطهير الملكية العقارية الخاصة.

بعد أن حقق المشرع الفرنسي نتائجه المنشودة والمتمثلة في فرنسة الملكية العقارية للأهالي، أصبح يعطي أولوية لعملية التطهير العقاري وهذا من خلال التحقيقات العقارية التي تضمنها قانون Warnier المؤرخ في 26 جويلية 1873 وقانون 16 فيفري 1897 المتمم بالقانون 04 أوت 1826، حيث استهدف الأول محاولة تطهير نهائي لأراضي العرش والملك وتسليم الملاك سندات ملكية، والثاني وسع العمليات عبر كامل التراب الوطني، من خلال عمليات تحقيق كلية أو جماعية (20)[20] .

سياسة الإصلاح العقاري

هذا و بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية اتجهت السياسة الإستعمارية إلى محاولة الشروع في سياسة عقارية جديدة سميت بالإصلاح أو التحديث العقاري (21)[21] وذلك بصدور سلسلة من القوانين نذكر منها :

1- المرسوم رقم 56-290 المؤرخ في 26 مارس 1956 والمتعلق بالتهيئة العقارية في الجزائر من أجل تشجيع عملية التبادل العقاري بالتراضي .

2- اذن ففي العهد الاستعماري لم تنجح فرنسا في وضع نظام عقاري ناجح، حيث كانت النصوص متعارضة وغامضة انتهت في الأخير إلى ترك وضعية عقارية جد معقدة ورثتها للدولة الجزائرية المستقلة سنة 1962. الأمر رقم 59-41 الصادر في 3 جانفي 1959 والمتضمن إنشاء نظام عقاري جديد بالنسبة لبعض محيطات التحديث العقاري، فهو متعلق بمسح الأراضي والغرض منه تنظيم وتحديد الملكية عن طريق المسح بإثبات حقوق الملكية العقارية،و إنشاء مخططات ورسوم بيانية لتحديد الملكية (22).[22]

3- المرسوم رقم 59-1190 المؤرخ في 21 أكتوبر1959 و المتعلق بإصلاح الشهر العقاري، وتوسيع انتشار مكاتب حفظ الرهون العقارية (23)[23] واعتماد الشهر الشخصي لكافة المعاملات العقارية مع تسليم دفاتر عقارية للملاك.

ومن كل ما ذكر سابقا، نجد أن السياسة العقارية الفرنسية كانت تهدف إلى توفير أراضي صالحة للمعمرين، وذلك بتأسيس دومين للدولة، و تطبيق القانون الفرنسي على الملكية في الجزائر ، هذا وأن عملية الاصلاح العقاري فشلت للظروف التي كانت تمر بها الجزائر واندلاع الحرب التحريرية في نوفمبر 1954.